دخل انتخاب الرئيس في اجازة طويلة يتساوى فريقا 8 و14 آذار في قطف ثمارها. بانقضاء 25 ايار يفقد المرشحون المعلنون والمضمرون وأولئك الذين ينتظرون ادوارهم، وينتقل الجميع الى الاشتباك في حكومة آلت اليها صلاحيات الرئيس. لا قرار تتخذه الا باجماع اعضائها الـ24
جلسة تلو اخرى يتكيّف النواب مع عدم اكتمال النصاب القانوني لانتخاب الرئيس الجديد للجمهورية، ويتحوّل حضورهم امرا عاديا، وربما اقل من ذلك. وقد يمسي مضجرا. بعد الجلسة الاولى في 23 نيسان التي حضرها 124 نائبا لبثوا في القاعة واجروا الدورة الاولى من الاقتراع، حضر الى المجلس في الجلسة الثانية في 30 نيسان 88 نائبا دخل منهم القاعة 75 نائباً.
ثم حضر في الجلسة الثالثة امس 7 ايار 75 نائبا دخل القاعة منهم 67. في الجلسة الرابعة الخميس المقبل قد يتدنى الرقم الى أقل.
هكذا يعتاد النواب، في ما يتبقى من المهلة الدستورية ثم في مرحلة ما بعد شغور رئاسة الدولة، على جلسات بعد أخرى من غير ان يتوقع اي منهم، في اي منها، اكتمال نصاب الثلثين. بل يكاد القاسم المشترك الذي يجتمع عليه افرقاء 8 و14 آذار ــــ وبعضهم في الفريقين معا يقلل من وطأته ــــ هو ان الفراغ واقع حتما وان صلاحيات رئيس الجمهورية آيلة منذ الساعة الصفر بعد منتصف ليل 24 ـ 25 ايار الى حكومة الرئيس تمام سلام.
قبل ساعات على اللحظة تلك، يكون الرئيس ميشال سليمان غادر قصر بعبدا الى منزله في اليرزة، قرب السفارة السورية. بيت من طبقتين يكاد ينتهي تأثيثه، اختار سليمان الاقامة فيه بدلا من الانتقال الى مسقطه عمشيت، على غرار سلفيه الرئيسين الياس هراوي واميل لحود، ومن قبلهما الرئيس الياس سركيس. بيد ان الاقتراب من الشغور، على مسافة 18 يوماً، يشير الى اكثر من مصدر للقلق بازاء الانتقال الى مرحلة دولة لا رئيس لها. ليست المرة الاولى، وقد لا تكون الاخيرة ما دامت السابقة وقعت:
1 ــــ لا وساطات وجهودا جدية لكسر حلقة الجمود التي تترسخ جلسة بعد اخرى في ظل اصرار كل من قوى 8 و14 آذار على تشبثه بموقفه من الاستحقاق، وهما بذلك يدفعان به الى المجهول. لا ضغوط بادية للعيان يمارسها السفراء النافذون لحمل الفريقين على انهاء لعبة اهدار الوقت والإصرار على شروطهما، ما خلا تأكيدهم يوماً تلو آخر ان لا مرشحين لديهم للرئاسة اللبنانية، لكنهم مستعدون لتقديم المساعدة عندما يُدعون اليها. ورغم بضعة مواقف معلنة يبدي فيها السفراء اولئك رغبتهم في ابصار رئيس جديد للبنان في المهلة الدستورية يتوافق عليه الاطراف المعنيون، فان المطلعين على تحركهم يلاحظون انهم اكثر اهتماماً بالسهر على تماسك حكومة سلام، وتجنيبها اي انقسامات، اكثر منه استعجالهم انتخاب الرئيس الجديد.
بل اللافت، خلافا لحالتين سابقتين عامي 1988 و2007 تشبهان مخاض الاستحقاق الحالي عندما حضر موفدون غربيون وعرب حاولوا الاضطلاع بوساطات لدى الافرقاء اللبنانيين لتسهيل اتفاقهم على انتخاب الرئيس، وتجوّلوا في ما بينهم وحملوا اقتراحات شتى، يقتصر الاهتمام الغربي الحالي على نشاط السفراء المعتمدين في لبنان ليس الا.
2 ــــ لم يفصح رئيس المجلس نبيه بري بعد عن تحركه التالي، بعدما لمح على اثر تعطيل نصاب الجلسة الثانية الى انه لن يقف مكتوف الأيدي. سرعان ما اوضح لاحقا انه سيعدّل في اسلوب العمل فحسب. يكتفي بري بتحديد موعد تلو آخر لجلسة الانتخاب، وفي قرارة نفسه ان النصاب لن يكتمل. في استحقاق 2007 ــــ وقد حدد على امتداد ستة اشهر 20 موعدا لجلسة انتخاب الرئيس ــــ ظل يتوجه الى مبنى البرلمان جلسة بعد اخرى ينتظر اكتمال النصاب. بعد انقضاء المهلة الدستورية لزم منزله في عين التينة يترقب مكالمة هاتفية من ساحة النجمة تنبئه باكتمال نصاب الجلسة كي يتوجه اليها. اكثر ايام الاستحقاق يأسا وسوداوية حينذاك.
ما ان تخرج من المهلة الدستورية، تتحوّل انتخابات الرئاسة مشكلة اكثر تعقيداً يختلط فيها الدستوري بالسياسي بالامني. غداة جلستي 23 نيسان و30 منه، استبعد رئيس المجلس امام زواره التئام النصاب القانوني في اي جلسة لاحقة في ظل الأحجام السياسية التي خرج بها فريقا 8 و14 آذار بعد الدورة الاولى من الاقتراع.
ورغم تكتمه على الافكار التي قد تحمله على التحرّك في الاسبوع الاخير من المهلة الدستورية، اتخذ بري موقفا يقترب في دلالاته ووظيفته من حليفه اللدود النائب وليد جنبلاط، لكن من دون ان يكون لديه مرشح معلن، الآن على الاقل: لا يشارك حزب الله وتكتل التغيير والاصلاح غيابهما عن الجلسات وتسببهما بتعطيل نصاب التئامها، ولا يشارك قوى 14 آذار بالتأكيد ترشيحها رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، ويراهن على عامل الوقت الذي سيحمل تيار المستقبل على التخلص من الحمولة الزائدة على كتفيه والذهاب في ما بعد الى انتخاب رئيس توافقي. لا يعني اصراره على حضور كتلته النيابية جلسات الانتخاب سوى التشبّث بوجهة نظره القائلة بوضع الاستحقاق في نطاقه الدستوري، باجراء دورات اقتراع متتالية في اكثر من جلسة اذا اقتضى الامر، متيقناً من ان اياً من فريقي 8 و14 آذار منفردا لن ينال الغالبية المطلقة من الاصوات.
3 ـ مآل الوصول الى 25 ايار من دون انتخاب رئيس للجمهورية، ان البلاد عرفت كيف دخلت في الفراغ من غير ان تتأكد من سبل الخروج منه. ليس بين الافرقاء المعنيين مَن يسعه التيقن من المدة التي يستغرقها. البعض منهم يتكهن بما يتجاوز الاشهر. بل الواقع ان استحقاقي 1988 و2007 اللذين خبرا الفراغ، لم يستطيعا الخروج منه الا بأكلاف باهظة. استغرق الاول 13 شهرا والثاني ستة اشهر. بانقضاء اشهر قليلة تحوّل الشغور الى عدم استقرار امني حتمي، فقادت حروب عام 1989 الى اتفاق الطائف، وحرب 7 ايار 2008 الى اتفاق الدوحة.
يكمن هنا مغزى تجربتين فصل بينهما عقدان من الزمن لكنهما افضتا الى خلاصة واحدة، ان الفوضى ــــ لا الفراغ في الرئاسة في ذاته ـــ وقد تحولت صدامات مسلحة مذهبية، داخل الطائفة نفسها تارة وبين طائفة واخرى طورا، هي التي قادت الى انتخاب رئيس جديد بالكلفة الباهظة يتنكبها المسيحيون: عام 1989 اصبح الرئيس بلا صلاحيات، وعام 2008 بلا دور.