ليس تمديداً للمجلس النيابي ما هو مطروح على الكتل البرلمانية في الأيام المقبلة. بل هو في الحقيقة والعمق تمديد للنظام السياسي اللبناني، مطروح على الكتل الطائفية والمذهبية. من دون إدراك هذه الخلفية للحدث، لا يمكن فهم ما يحصل الآن من حراك واتصالات، ولا ما سيتظهّر الأسبوع المقبل من مواقف وتموضعات.
فالجميع في لبنان، قوى سياسية وتكتلات طائفية، يعرفون أن المسرح اللبناني الراهن محكوم بعوامل قاهرة عدة، أبرزها الآتي: أولاً شغور في موقع رئاسة الجمهورية. ثانياً وجود حكومة تعمل على طريقة ماكينات التتريس (Engrenage) حيث يمكن لأي عجلة منها أن تعطّل الماكينة بكاملها. ثالثاً، زوال الضابط الخارجي الذي رعى عمل النظام اللبناني الحالي منذ ربع قرن. رابعاً، تفجر إقليمي مفتوح على كل الاحتمالات، من الفوضى المطلقة إلى سيلان حدود الدول إلى إعادة رسم الخرائط داخل كل دولة أو بين بعضها… في ظل وضع كهذا متفلّت من أي ضوابط ممكنة أو متوقّعة، يدرك الجميع في لبنان أن أي فراغ في المجلس النيابي، سيعني حكماً وحتماً سقوطاً للنظام القائم. وبالتالي الذهاب بعده، أياً كانت الاحتمالات أو الآجال الزمنية، إلى شيء «تأسيسي» جديد. في ضوء هذا المعطى يمكن قراءة ما يقوله قادة التجمعات الطوائفية في لبنان. أياً كانت تبريراتهم السياسية، أو ذرائعهم القانونية، أو تسويغاتهم الإعلامية. في قعر العقل السياسي الواعي أو الجمعي أو الباطني لكل منهم، ثمة سؤال مطروح بحروف القلق والمجهول: ماذا إذا لم نمدّد للنظام؟
العقل السياسي للطائفة السنية بداية، يمثله بامتياز فريق «المستقبل». هنا نرى هذه العلاقة العضوية البنيوية بين نظام الطائف والطائفة السنية. خصوصاً بعد زوال الوصاية السورية وقيام طائف السنّية السياسية بعد العام 2005. فالدولة دولتهم، في الواقع والفكرة والممارسة. بدءاً بتسمية الطائف السعودية، انتهاء بموقع رئاسة الحكومة، مروراً بقدرة هذا الفريق الفريدة على جمع كل مكوّنات العامود الفقري لنظام الطائف. فهو يملك الإمكانات المالية الهائلة، ونصاباً شبه مكتمل من التحالفات الطوائفية الأقلوية: قسم مقبول من المسيحيين، بضعة أسماء شيعية ودرزية موضبة بعناية تسويقية مُرضية، حول أكثرية سنية ساحقة. تضاف إليها علاقة هرمية مباشرة بمرجعية الرياض الإقليمية. فضلاً عن اندماج كامل ضمن النظام العالمي الذي تديره واشنطن. وبالتالي، يملك العقل السياسي السني كل ما هو ضروري ليرى مصلحته الحيوية القصوى في استمرار النظام وتمديده، لا بل تأبيده. هكذا يمثل هذا العقل اليوم، يمين النظام. تماماً كما كان موارنة الجمهورية الأولى، موارنة الأربعينات وحتى الستينات، مثلهم يُقبلون على التمديد بحماس، كما فعل هؤلاء في العام 1976. كي لا ينفجر النظام. كي لا تأتي الحرب أو الفوضى، فتفرضان تبديلاً في معادلاته وموازينه. كي لا يخسر يمين النظام «امتيازاته». كل الباقي مفهوم. لا بل مشروع. أن تستقوي تارة بحافظ الأسد، وطوراً بمناحيم بيغن. أن تقفز من رونالد ريغان إلى صدام حسين… كل البهلوانيات مسموحة، من أجل ضمان التمديد للنظام.
في المقابل يبدو العقل السياسي للطائفة الشيعة ممثلاً بامتياز أيضاً بثنائية أمل – حزب الله. عقل سياسي صاعد متنام، يعيش صحوة فردية وجماعية وإقليمية وحتى دولية. لكنه لا يمسك بسلطة النظام. وفي الوقت نفسه، لا يمسك بالأوراق اللازمة لتغييره في الاتجاه الذي يناسبه. أصلاً، في مكان ما، يبدو العقل السياسي للطائفة الشيعية وكأنه لا يملك رؤية واضحة للتعديل الذي يريده ويقدر عليه، بما يعيد توزيع السلطة بشكل عادل من منظوره، داخل ميثاقية النظام اللبناني. هكذا يبدو الشيعة، بهذا المعنى، وكأنهم موارنة العشرينات والثلاثينات. موارنة لبنان الكبير وما قبل الاستقلال. همّهم الكيان، ولو اقتضى ذلك بضعة تنازلات جانبية هامشية. المهم الآن ضمان نهائية الكيان، في زمن تبدو فيه الكيانات الوطنية أوراق خريف سني طالع من وأد ربيع عربي مجهض. لذلك يفكر الشيعة في احتمالات عدم التمديد. لكنهم لا يرون فيها ترجيحاً طاغياً إلا المجهول. فيعودوا للقبول بالتمديد، أياً كانت الأسباب الموجبة والنيات اللامقولة والدوافع المعلنة.
يبقى المسيحيون والدروز. يتشارك الاثنان في الكثير من سمات عقلهما السياسي الراهن. في قعره، يرون في سرهم أن النظام الراهن قد حوّلهم مواطنين من درجة ثانية. تماماً مثل مسلمي جمهورية ما قبل الطائف. وفي سرّهم يتمنون تغييره، تبديله، أو حتى سقوطه. وفي سرّ أسرارهم، يفضّلون نظاماً جديداً يؤمن لهم شيئاً من الذاتية، يضمن لأوهامهم والمزاعم والادعاءات، بعضاً من الخصوصية. خصوصاً في زمن «داعش». كل ما عدا ذلك باطنية مسيحية أو درزية في عقل شارعهما المأزوم والموهوم. غير أن تلك الكوامن لا تلبث أن تصطدم بهذه المتلازمة المسيطرة على المسيحيين والدروز راهناً. متلازمة الخوف والعجز. خوف مما لا يدركون، وعجز عما يريدون. خوف وعجز يبدوان مفيدين جداً لهم في هذه المرحلة. إذ يجنّبانهم مغامرات مجرّبة ومآسي مسبوقة ومكررة. هنا يبدو الخوف والعجز أستاذين في التاريخ والجغرافيا، أبلغ بكثير وأفعل، من التجربة والخطأ وحتى الكارثة… فيلجأ هؤلاء، خصوصاً المسيحيين، إلى موقف يظهر هذه الازدواجية بالذات: بين الرفض والعجز. فيعلنون رفضهم التمديد للمجلس، وبالتالي للنظام، مع إقرارهم بخوفهم من البدائل المجهولة، وعدم قدرتهم على تعطيل التمديدين.
رائع جداً لبنان لمن يفهمه. ومروع لمن لا يفعل!