كل ما تبقى من «الاستقلال»، إجازته كيوم عيد.. أما «دولة الاستقلال» فقد ضربتها الشيخوخة، وتقاسمها زعماء الطوائف فصارت دولاً شتى. ولأن الطوائف «مصالح»، فقد نشأ تحالف متين بين زعاماتها وأهل العقار والمال والوكالات التجارية الغربية و»ممثلي» الاستثمارات الخليجية.
توارى رجالات الاستقلال في الذكريات، بعدما ضربت صورتهم ممارساتهم في الحكم.. فمن اعتقلوا في قلعة راشيا تكشفوا في ما بعد عن «طغاة» و»مفسدين» أو «صنائع» دول أجنبية. وعلى حد تعبير أحد المدرسين: من الصعب ان أقنع طلابي بأن الرئيس «الذي جاء به الأجنبي وذهب به الشعب» هو بطل للاستقلال. وان الرئيس الثاني قد استعان بالقوات الأجنبية ليكمل مدته في قلب الغضب الشعبي الذي أطلقت عليه تسمية «ثورة 1958».
أما الرئيس الثالث الذي جاء، بعد تردد طويل، من قيادة الجيش، فقد رفض أن يجدد ولاية ثانية برغم «التظاهرة» التي جمعت الأكثرية الساحقة من النواب في مقره، حيث حملوه على الأكتاف، لأنه اكتشف ان النظام عقيم وغير قابل للإصلاح.
مع الرئيس الخامس انفجرت الحرب الأهلية لأسباب متعددة، وجاء الرئيس السابع على ظهر دبابة إسرائيلية، وهي ذاتها التي أوصلت شقيقه الرئيس الثامن بعد اغتياله، وهو الذي ترك القصر الجمهوري بلا رئيس لأنه ظل يناور حتى اللحظة الأخيرة لعل الحظ يحالفه مرة جديدة فيتم تمديد ولايته.. في دمشق!
إنه يوم الأربعاء من صباح 22 تشرين الثاني 1989. لبنان الخارج للتوّ من حرب أهليّة بعد توقيع اتفاق الطائف، يحتفل بالذكرى 46 لعيد الاستقلال في ظلّ رئيس للجمهوريّة اسمه رينيه معوّض منتخب منذ 17 يوماً، وذلك بعد 409 أيام من الفراغ الذي استولد حكومتي سليم الحص وميشال عون.
القصر الجمهوري محتل «من الشعب» وميشال عون يقيم فيه مع عائلته. جادة رياض الصلح مدمّرة عن بكرة أبيها. يدا حبيب أبي شهلا مقطوعتان في التمثال الذي يعلو الجادة بالقرب من «الأونيسكو». بشارة الخوري أيضاً غير موجود في مكانه.
«أمر اليوم».. «أمران»: الأوّل، لميشال عون، يوم 22 تشرين الثاني 1989: «اتفاق الطائف خيانة ولا عقدة في التفاوض مع إسرائيل(!)». الثاني، للواء سامي الخطيب ويخصصه لمهاجمة عون.
في 21 تشرين الثاني 1989، يوجه رينيه معوض كلمة الاستقلال الى اللبنانيين، متعهداً بـ»مشاريع عهد الرئاسة». أما رئيس حركة «أمل» نبيه بري العائد من دمشق، فيرفض الاحتفال بالعيد في وجود «أرض عزيزة محتلّة».
في اليوم التالي، كان اللبنانيون بانتظار حفل الاستقبال التقليدي في مقرّ السرايا الحكومية المؤقت (في الصنائع). «فخامته» يخرج من منزله. تضع «السيّدة الأولى» نائلة معوّض في جيبته «حبة بونبون» بعد أن يئست من إقناعه بعدم الذهاب. يصرّ معوّض على الاحتفال بالاستقلال مؤكداً «أنني أخاطر بحياتي للحفاظ على الروابط بين كلّ فئات لبنان». العقدة كانت بتشكيل حكومة الحصّ، بعد تمنّع عدد من القوى المسيحية عن المشاركة فيها، وخصوصاً «الكتائب».
أكثر من ثلاث ساعات قضاها معوّض، وإلى جانبه الحسيني والحصّ، في السرايا. يضعون يدهم في يد المهنئين. يخرج «فخامته» ليعود إلى منزله. في تمام الساعة 2 إلا عشر دقائق وعند تلك النزلة المعروفة بـ»حبس النسوان» (عائشة بكار) سيكون بانتظار معوّض 250 كلغ من المتفجّرات.
معوّض الذي كان ينظّم، بالأمس، موضوع توزيع الأكاليل على الأضرحة، صار اليوم رجلاً للاستقلال. وتحوّل معه العيد إلى ذكرى استشهاد رئيس الجمهوريّة. روايات التفجير كثيرة، ويحصى منها 3 روايات، على الأقلّ، قد تأخذهم نائلة معوّض على محمل الجدّ. وهي التي سارعت إلى اتّهام عون، ثم السوريين ما إن خرجوا من لبنان في العام 2005.
]]]
إنّه يوم الخميس الواقع في 22 تشرين الثاني من العام 1990. الرؤساء: الياس الهراوي، حسين الحسيني، وسليم الحصّ يقفون على المنصّة لمشاهدة العرض العسكري الرمزي في المتحف. وقد يكون اللبنانيون في حينها، وقفوا مشدوهين عند رؤية طائرات تستعرض قوّة لبنان العسكريّة في ذكرى استقلاله الـ47. في الجهة المقابلة، تعلو الابتسامة وجه قائد الجيش العماد إميل لحود وهو يتلو «أمر اليوم».
عند الساعة التاسعة والنصف، يهمّ الرؤساء الثلاثة بالانتقال إلى المقر الرئاسي المؤقت في الرملة البيضاء (الذي قدّمه الرئيس رفيق الحريري للهراوي). يبدو الرئيس سليم الحصّ تعباً، فيطالب الرؤساء بأخذ قسط من الراحة بعد ساعات على استقبال المهنئين..
أما نزلة «حبس النسوان»، فلم يعد اسمها كذلك. تحوّلت إلى «شارع رينيه معوّض». وعند الساعة 2 إلا عشر دقائق كان الوزير ألبير منصور ممثلاً الهراوي يزيح الستار عن اللوحة التذكاريّة باسم معوّض في مهرجان رسمي وشعبي.
]]]
إنّه يوم الأحد 22 تشرين الثاني من العام 1992، الرئيسان الياس الهراوي ونبيه بري يشاهدان العرض العسكري. لا طائرات في الجوّ، فالعاصفة القويّة حالت دون مشاركتها في العرض العسكري.
ينتقل الرئيسان إلى المقر الرئاسي المؤقت. الحريري يتأخر، ليأتي في ما بعد. تأخره ليس مرتبطا بالوفد السوري، إذ أن المصوّرين التقطوا آنذاك صوراً أرشيفية لـ»دولة الرئيس» وهو يضحك لغازي كنعان.
]]]
إنّه يوم الاثنين من العام 1993، لبنان يحتفل بـ»اليوبيل الفضي» لنيل استقلاله. ورشة إعادة تماثيل رجالات الاستقلال بدأت. العرض العسكري انتهى، والرؤساء الثلاثة لم يتغيّروا هذه المرّة. وحده مقرّ رئاسة الجمهوريّة تبدّل، إذ صار لـ»فخامته» قصر حديث العهد في بعبدا. رفيق الحريري لم يتأخر كالسنة الماضية، بل هو يستقبل المهنئين. وحدهما وليد جنبلاط وغازي كنعان لم يأتيا إلى القصر. الأوّل يزور إيران والثاني استبدل برستم غزالة.
الجديد هذا العام، هو مشاركة إسرائيلية في عيد الاستقلال! فالعميل أنطوان لحد لم يستطع تفويت عيد الاستقلال عليه، وأصرّ على إقامة حفل في «إذاعة صوت الجنوب» وكان قائد المنطقة الشمالية في قوات الاحتلال يشارك شخصياً باستقلالنا.
]]]
إنه يوم الأحد 22 تشرين الثاني 1998. الشخصيات لن تتبدّل، الياس الهراوي ونبيه بري ورفيق الحريري في مكانهم. إميل لحود انتقل من الجهة المقابلة ليقف على المنصّة مع أنه صار رئيساً منتخباً. اللبنانيون لم يألفوا بعد الطائف أن ينتصب أمامهم رئيسان للجمهوريّة، بالرغم من أن هذا المشهد هو الطبيعي، على اعتبار أن ولاية رئيس الجمهورية تنتهي في عيد الاستقلال. العميد سمير القاضي يتلو «أمر اليوم» بدلاً من لحود. وينتقل الرؤساء الأربعة إلى القصر الجمهوري لإقامة احتفال رسمي هذه السنة، بدلاً من الرسمي والشعبي.
]]]
إنّه يوم الجمعة 22 تشرين الثاني من العام 2002. لحود وبري في ساحة الشهداء في السنة الثانية لانتقال العرض العسكري إلى هذه الساحة، وصوت قائد الجيش العماد ميشال سليمان يعلو في «أمر اليوم» ليدعو العسكريين للالتزام بالقوانين.
أما الحريري فيعيد التاريخ بعد 10 سنوات. هو الذي تغيّب في العام 1992 عن العرض، يتغيّب اليوم أيضاً لوجوده في فرنسا. الزائر الجديد في قصر بعبدا هو النائب محمّد رعد ممثلاً السيد حسن نصر الله.
]]]
إنّه يوم الاثنين 22 تشرين الثاني 2004. الحريري لم يتغيّب هذه المرّة بل حلّ مكانه عمر كرامي رئيساً للحكومة. في حين أن لحود بقي على المنصّة «بقوة التمديد» وبري «بقوة الانتخاب». العرض العسكري يجري كالعادة، ولكن هذه المرّة زحف الطلاب إلى المتحف وعدد من الساحات رافضين الاحتفال بعيد الاستقلال بعد التمديد للحود، في ظلّ مقاطعة عدد من القوى، وأبرزها «قرنة شهوان»، للمشاركة في حفل الاستقبال في بعبدا.
]]]
إنّه يوم الثلاثاء 22 تشرين الثاني 2005. لحود وبري في ساحة الشهداء. الحريري يتغيّب للمرّة الثالثة. هذه المرّة تغيبه فوق إرادته. الحريري ليس في فرنسا وإنما في ساحة الشهداء وعلى مقربة من العرض العسكري، بعد أن أضحى «الرئيس الشهيد» وأحد رجالات «الاستقلال الثاني».
«ارث دولة الرئيس» انتقل إلى «يده اليمنى» فؤاد السنيورة. حضوره لم يكن هذا العام بديهياً، كأي رئيس حكومة يقف على المنصة لمشاهدة العرض العسكري السنوي. وإنما هذا العام أخذ العديد من الأخذ والردّ، إذ أن «14 آذار» لا تعترف بلحود وتعتبره من «أدوات النظام الامني السوري» الذي أدى إلى اغتيال الحريري. بعض نوّاب «14 آذار» برروا رفع يدهم للتمديد للحود ولاية ثانية بأنها «كانت بأمر من السوريين».
العيد الـ62 للاستقلال هذا العام تحوّل إلى «عيدين» وذلك «بمعيّة» ثوار الأرز.. وبينما كان الرؤساء يتقبلون التهاني في القصر الجمهوري، لم يكن هناك أثر في القصر لتيار «المستقبل» و»اللقاء الديموقراطي»، و»القوات اللبنانية»، وشخصيات «قرنة شهوان». هؤلاء قاطعوا القصر، مفضّلين الاحتفال بالاستقلال عند ضريح «رجل الاستقلال الثاني» وحده لا غير. مفتي الجمهورية الشيخ محمّد رشيد قباني قرّر أن يتضامن مع «حلفائه»، فلم يأتِ إلى بعبدا أو يرسل ممثلاً عنه حتى.. الانقــسام يتجــلّى واضحاً في ذكرى الاستقلال، لأوّل مرة منذ التوقيع على اتفاق «الطائف».
]]]
إنه الثلاثاء 22 تشرين الثاني 2007. لا حفل استقبال لهذا العام. مسلسل الانقسام العمودي في البلاد يكمل حلقاته. في القصر الجمهوري، لحود يوضب أغراضه. وقرّر في يومه الأخير إلغاء الاستقبال والاكتفاء بلقاء مع العاملين في القصر.
في ليلة عيد الاستقلال الـ64، يخلو القصر من رئيس للجمهوريّة لأول مرة بعد اغتيال رينيه معوّض.
]]]
إنّه السبت 22 تشرين الثاني 2014. في العيد الـ71 لاستقلال الجمهوريّة عن الانتداب، ولأوّل مرة بعد الطائف، ستكون أضواء القصر الجمهوري مطفأة. لا رئيس، لا احتفالات في غياب «فخامته»، لا عرض عسكرياً في غياب «زملاء السلاح» الذين وقعوا أسرى بيد الجماعات الإرهابيّة في عرسال. إذاً، لا عيد أصلاً، والعاصفة وحدها تربط صور الاستقلال منذ 25 عاماً إلى اليوم.