ليس أسهل على اللبنانيين من ان يغالوا في لعبة الأرقام القياسية في كل شيء حتى في الازمات. ولعل عينة معبّرة في هذا السياق يمكن سوقها على هذا المزاج، اذ فيما كانت معارك الجيش على أشدها مع التنظيمات الارهابية خلال الصيف الفائت، كانت احدى البلدات الشمالية تحتفل بمباراة دخول موسوعة غينيس بأكبر رغيف شاورما عملاق.
سنة ٢٠١٤ اللبنانية سيذهب معظم اللبنانيين في المغالاة الى تصنيفها بأنها الأسوأ ربما منذ اشتعال الحرب في عام ١٩٧٥ وحتى منذ نشوء لبنان الكبير الذي ستكون سنة ٢٠٢٠ مئويته الاولى. ولكنها مع ذلك تطوي صفحتها ولبنان لا يزال يقاوم الانهيار ويقوى عليه ولو بشق النفس. حتما كانت السنة الاشد سوءاً وهولا في المنطقة التي انبعث فيها عصر دموي لا سابق له في اسقاط الدول والحدود وارتكاب المجازر ضد الانسانية وإبادة أقليات، على ما جرى في العراق مع صعود “داعش” وشقيقاتها وتمددها الى سوريا في كوريدور دموي مدوّ. وحتما وقف لبنان للمرة الاولى بأقصى الخشية امام تمدد نصل السكين الى حدوده والداخل وخصوصا الى الشمال والبقاع الشمالي والأوسط وصولا الى العرقوب. ومع ذلك سبح لبنان فوق الموج المتلاطم على الحدود عسكريا وفي الداخل أمنيا وايضاً وايضاً في ازمة سياسية – دستورية مفتوحة استهلكت منه معظم السنة الآفلة وهو بلا رئيس للجمهورية.
بمقياس أهوال المنطقة إذاً وبالمعايير المنطقية للجغرافيا والديموغرافيا الطائفية والمذهبية، وكذلك بمعايير الارتباطات الاقليمية والتورطات الكبيرة في الحرب السورية خصوصاً، كان يمكن، بل ربما كان حتميا، ان ينزلق لبنان او ان يدفع الى الالتحاق الكامل بجحيم العراق وسوريا. لم يحصل هذا الشر الوجودي، بل الأصح انه فشل ولكن من دون النوم على حرير أنه أمسى ساقطا.
لقد عانى لبنان في السنة ٢٠١٤ من مجموع أزمات تتجاوز بأثقالها واخطارها، وبلا أي مبالغة، مجموع حروبه وما بعد الحروب السافرة والمقنّعة قبل الطائف وبعده. وليس أدل على هذه الحصيلة من تشابك مثلث الازمات الوجودية الثلاث التي تنامت وتصاعدت وتعملقت على مسار الخطر الجاثم على الحدود وفي الداخل، الى حدود التسابق الجهنمي على تقويض لبنان. ومع ذلك فان المفارقة المذهلة التي واكبت السنة الراحلة منذ طلوع شهرها الاول كانت في ان أي لبناني لم يكن ليفاجأ بان البلد المضروب بأنواء الحرب السورية، لن يكون مرور سنته آمنا هانئا مع تصاعد الانقسامات الداخلية والصراع المحتدم بقوة على مسألة تورط “حزب الله” في الحرب السورية، الامر الذي افتتحت معه السنة برسم علامات الشكوك الكبرى على الاستحقاق الرئاسي ومن بعده الاستحقاق النيابي. سارت الحمى التصاعدية على مساريها الدستوري – السياسي والامني بقوة اكبر مع حلول المهلة الدستورية لانتخاب رئيس الجمهورية في ٢٥ آذار. وبات يمكن الإفصاح الآن، ان معظم المؤشرات كانت تدل منذ تلك المهلة على ان البلد سيحكم بالفراغ بدليل الولادة القيصرية الصعبة لحكومة الرئيس تمام سلام التي أعدت لتكون البديل الرئاسي من رئيس لن ينتخب لمدة مجهولة ومفتوحة على الانتظار. ومن كان لا يزال لديه وهم في امكان استدراك الفراغ الرئاسي سقط وهمه مع فشل محاولة تجنب الفراغ بالتمديد للرئيس ميشال سليمان الذي سعت اليه فرنسا والسعودية والفاتيكان.
الفراغ هذا الذي تطوي السنة الراحلة شهره السابع وتورثه الى السنة ٢٠١٥ بدا ايضا الضريبة المضافة لبنانيا لتداعيات انفجار الحدث الداعشي العراقي – السوري في حزيران، إذ بعد أقل من شهرين من الصدمة الداعشية انفجرت على حدود عرسال المتداخلة لبنانياً وسورياً أولى المواجهات بين الجيش والتنظيمات الأصولية الزاحفة لتبدأ معها صفحة طمست كل ما سبقها واخترقت لبنان بمعطيات ووقائع غير مسبوقة بخطورتها. يمكن القول بلا تردد في هذا السياق ان “داعش” و”النصرة” استولدتا على حدود الجرود في البقاع الشمالي ومن بعدها في طرابلس والشمال جيشاً لبنانيا يخوض معارك بمعايير مختلفة اختلافا جذريا عن كل معاركه وتجاربه السابقة منذ نشأته. بين نكسة الثاني من آب التي حولت قضية العسكريين المخطوفين لدى التنظيمين الخاطفين الى احدى أقسى الازمات التي عاش معها اللبنانيون الأشهر الخمسة الاخيرة من السنة على وقع الصدمات الاجرامية مع تصفية اربعة عسكريين واختناقات التحركات الاحتجاجية لأهالي العسكريين، وبين اندفاع الجيش لاحقاً في الإمساك بناصية الحزم والحسم في أوسع عمليات تعقب، توقيفات ومكافحة، لخلايا الارهابيين في سائر المناطق بعد نجاحه المكلف في انقاذ طرابلس من براثنهم، بدأت صورة الجيش تتبدل تبدلاً جذريا داخليا وخارجيا وبدأت دفعات التسليح الاميركية ومن ثم الهبات السعودية السخية تعلي عنوانا كبيراً لارادات دولية واقليمية بالارتكاز على الجيش لمنع انهيار لبنان.
بكلفة باهظة وموجعة بدأ الخارج الدولي والإقليمي يرسم ملامح تطويق تمدد “داعش” وتوسعه الى ابعد من المناطق التي بسط دولته وإمارته عليها في العراق وسوريا، وبدا لبنان بين اولويات هذه الاستراتيجية عقب معارك عرسال وطرابلس وبعض الشمال. ولكن الدعم للجيش لم يحجب أسوأ الجوانب الدولية في التعامل مع محنة لبنان الماثلة بالضلع الثالث الجهنمي المتمثل بتنام مخيف لثقل اللاجئين والنازحين السوريين على ارضه. ولعل أنكى ما رافق تصاعد هذه الكارثة التي تشكل اكبر الاخطار المهددة بانهيار لبنان تحت وطأة انتشار اكثر من مليون ونصف مليون لاجئ ونازح سوري، ان المجتمع الدولي راح يأخذ السخاء اللبناني في هذه الكارثة عينة حصرية لانتزاع الدعم والمعونات للدول المضيفة للاجئين، فيما لم يحظَ لبنان بفتات الحد الأدنى من الدعم الذي يبقيه قادرا على تحمل الأثقال المخيفة.
ماذا في الخلاصات التي تطل على السنة الجديدة؟
أولاً: من نافل القول ان زحمة الموفدين والوساطات وكل التحركات المتصلة بالفراغ الرئاسي في الهزيع الاخير من السنة لا تترك شكوكا في ان لبنان المأزوم يخرج بخواء عارم لن يجد معه الباحثون عن “رجل العام” سوى الوجه السلبي، اذ لا رجال عام ولا بطولات ولا ابطال، بل ثمة فقط رجل عام واحد يبسط تداعياته على مجمل الواقع اللبناني هو الفراغ الرئاسي. هذه الحصيلة وان كانت ستشكل الإدانة القاسية لقصور القوى اللبنانية في مجملها من منطلق سقوطها المدوي في إفراغ رئاسة الجمهورية وسط اشد الظروف الخطرة التي يواجهها لبنان فإنها تدمغ ببصمة الادانة الأقسى القوى المسيحية خصوصا التي يقيد في سجلها غير الذهبي انها سقطت هي الاخرى في اختبار الارتقاء الى مستوى الاخطار الوجودية التي يتعرض لها المسيحيون في المنطقة والتي تبقي مسيحيي لبنان أملا اخيراً وحصريا كقلعة سياسية ومعنوية وحضارية تمنع تمدد المؤامرة الظلامية المتطرفة الى لبنان انطلاقا من الحفاظ على الرئاسة المسيحية الوحيدة في الشرق العربي والإسلامي. ولا شك هنا في عدم جواز التعميم في المسؤوليات، اذ ان معطّلي الانتخابات الرئاسية من مسيحيين وحلفاء لهم يتحملون بالكامل تبعة ازمة الفراغ بل التسبب بها لمصالح اقليمية فاضحة.
ثانياً: ان الجيش اللبناني في المواجهة مع الارهاب منذ معركة عرسال خاض ويخوض معمودية غير مسبوقة وضعته للمرة الاولى تقريبا امام وجه غير مألوف من الاختبارات الميدانية والقتالية. كانت معركة ٢ آب نكسة مؤلمة بكل المعايير مع الظروف الشديدة الالتباس التي مكنت المجموعات الارهابية من خطف اكثر من ٣٠ عسكريا تحولت قضيتهم كابوسا يوميا ولا زال. ولكن أداء الجيش في المعارك اللاحقة، ان على الحدود وان في الضربات الاستباقية في الداخل، بدأ يصنع واقعا جديدا مختلفا استعاد معه الجيش صورة متماسكة ايجابية أعاد معها الرهان بكل قوة عليه حاميا للاستقرار ومانعا لتمدد الارهاب الاصولي من اختراق الحدود والعبث بفتن داخلية. والاهم انه وسط ازمة الفراغات والتهديدات والأخطار أعاد اثبات انه المؤسسة التي لا تزال تشكل العمود الفقري الجامع للبنانيين بدليل تصاعد تعاطف والتفاف شعبي غير مسبوق حوله.
ثالثاً: سقط المجتمع الدولي سقوطا مهولا في ترك لبنان يستباح امام اثقال كارثة اللاجئين والنازحين السوريين الى حدود تبرر المخاوف من خطر توطينهم وجعل لبنان ارض لجوء لهم. سقطت كل محاولات إقامة مناطق عازلة داخل الحدود السورية او في نقاط متاخمة للحدود مع لبنان مثلما شحت الى حدود غير متخيلة المعونات والمساعدات الدولية للبنان وللاجئين سواء بسواء. هؤلاء اللاجئون باتوا بدورهم ضحايا مثلث شيطاني : التهجير والتوظيف الارهابي والفقر.