تأخر الرئيس أوباما في تقديم استراتيجية جديدة للأمن القومي، متسببا في زيادة قلق صانعي السياسة في الدول الحليفة والقيادات السياسية والبيروقراطية في الولايات المتحدة. قيل الكثير في أسباب التأخير. بعض ما قيل يمكن قبوله مثل أن أوباما كان ينتظر تطورا واحدا إيجابيا يزين به استراتيجيته الجديدة، ومن حسن حظه، جاء هذا التطور أخيراً في شكل مؤشرات جيدة عن بدء الانتعاش الاقتصادي في الولايات المتحدة. أسباب أخرى لم تكن مقنعة مثل التغييرات الأخيرة في وظائف وعضوية مجلس الأمن القومي وفوز الجمهوريين بأغلبية مقاعد مجلسي الكونغرس.
كنت دائما واحدا من الذين اعتقدوا أنه من الضروري الاهتمام بالوثائق التي تنشرها الولايات المتحدة، وبخاصة تلك المتعلقة بالأمن القومي وقضاياه. فالاستراتيجية التي يفترض بحكم القانون أن تصدر دوريا باسم رئيس الدولة، وثيقة لا تعبر بالضرورة عن رأي الرئيس الشخصي وقناعاته حول قضايا الأمن، ولكنه بتقديمه إياها للكونغرس والأمة الأميركية، إنما يؤكد رضاه عن محتوياتها بل والتزامه بها. هذه الوثيقة لا تكتبها أو تضع مادتها مؤسسة أميركية بعينها، بل تشترك في إعداد بياناتها وتوجهاتها جميع مؤسسات الدولة ذات الصلة بالأمن القومي، بما فيها المؤسسات المختصة بميزانية الدولة والشؤون الداخلية والتعليم والصحة العامة، ثم تشترك جميعها في الإقرار بدورها في صنعها قبل تقديمها للرئيس. هكذا تتفادى الاستراتيجية الوقوع في تناقض أو اختلاف البيانات والتوجهات، وتبتعد ما أمكنها عن تضارب المصالح في جهاز الدولة وقياداتها الحزبية.
على النقيض من وثائق رسمية أخرى، يهتم محرّرو استراتيجية الأمن القومي بالتدقيق في معاني الكلمات ودقة الاختيارات وبساطة اللغة والابتعاد قدر الإمكان عن الأسلوب البيروقراطي، وهو الاهتمام المأخوذ به عادة في كتابة خطب رئيس الجمهورية الأميركية. من المهم مثلا الانتباه إلى الأسلوب الذي استخدمته الاستراتيجية في طبعتها الأخيرة عند الإشارة الضمنية إلى تغيير طرأ على السياسة الأميركية مؤخراً فرض تأجيل مسيرة «التحول نحو الشرق»، وهو القرار الذي كاد يكون أحد أهم العلامات المميزة للسياسة الخارجية الأميركية في عهد أوباما. وقعت الإشارة إلى هذا التغيير بطريقة تكشف عن مرونة وهدوء صائغي الاستراتيجية وحرصهم الشديد على تفادي الاعتراف صراحة بأن سياسة التحول نحو الشرق كانت خطأ كبيرا، سواء في الجوهر أو حتى في العناوين والتلميحات، لما تسببت فيه من توتر في منطقة شرق آسيا وعلاقات الصين بجاراتها، فضلا عن أن بداياتها لم تفلح في إحداث تغيير جوهري في أي شأن ذي بال في المنطقة.
بمعنى آخر، أتصور أن الاستراتيجية الجديدة راعت المرونة الكافية التي تسمح لإدارة أوباما بالاعتذار عن أخطاء مارستها خلال السنوات الماضية، وراعت أيضا التزام قدر ضروري من الصراحة والشفافية. حدث هذا عندما اعترفت الوثيقة للرأي العام الأميركي، وللعالم الخارجي، بأن الإمكانات الأميركية مثل غيرها من إمكانات الدول ليست لا نهائية. هي، بالتأكيد وبعيدا عن منطق الانحدار، إمكانات محدودة. اعترفت أيضا أن هذه الإمكانات على ضخامتها لم تعد تتناسب مع التطورات الهائلة في النظام الدولي، ومع تضخم المصالح القومية الأميركية. هذه الشفافية ضرورية لدعم صدقية الدولة في نظر المواطنين، وضرورية في النهاية عند الطلب إلى المواطنين تقديم تضحيات أو تحمل خسائر خلال الأزمات والصراعات التي تكون أميركا طرفا فيها.
أثار انتباهي كقارئ عابر للاستراتيجية الجهد المبذول من معديها لشرح «السياق» الدولي والإقليمي وقت إعداد الاستراتيجية. أضرب مثالا: فقد بدا واضحا أن خلافا لا يزال ناشبا بين معسكرين في منظومة السياسة الخارجية حول الدرجة التي وصل إليها تردي الوضع الدولي، وحول أسباب هذا التردي ومستوى الارتباك الأميركي أثناء التعامل مع هذا التردي. هناك في أميركا من يعتقد أن انكشاف «ضعف الدولة» في الشرق الأوسط وأفريقيا، والتحديات الجديدة من جانب روسيا في شرق أوروبا، والأخطار الحقيقية التي تهدد الأمن الأوروبي والتي تتعدد مصادرها، وصعود الصين المتسارع مؤخرا، كلها عوامل جيواستراتيجية أثرت تأثيرا مباشرا في كفاءة منظومة السياسة الخارجية الأميركية.
آخرون يقولون إن المشكلة تكمن في النظام الدولي ككل. فالنظام يتحول بسرعة تفوق سرعة تأقلم أميركا مع هذا التحول، وبأكثر مما تنبأ أو توقع علماء الاستراتيجية والسياسة في البلاد. هذا التحول خلق حالة من التحديات المعقدة للولايات المتحدة، ازدادت تعقيدا بتحديات داخلية تتعلق بالمرافق العامة وتحولات معتبرة في «الشخصية الأميركية» وفي «النظام الطبقي»، وكلها لا تقل خطورة وأهمية عن التحديات التي يجسدها النظام الدولي في مجمله. ومع ذلك، هناك من يرون أن هذه التحديات مجتمعة لا تستحق من صانع السياسة في أميركا كل هذا القلق الذي ينعكس في تصرفاته. إنما يأتي القلق في رأيهم نتيجة ميل قادة الاستراتيجية الأميركية للتعامل مع العالم الخارجي ككل متكامل. بينما يجب عليهم، ويقصدون قادة مؤسسات منظومة السياسة الخارجية الأميركية كافة، التعامل مع كل قضية أو أزمة خارجية على حدة ومن دون أن تطغى مشكلة على غيرها من المشكلات فتحتكر الاهتمام وتستأثر بأكثر مما تستحق من أرصدة القوة المتاحة والمحتملة. توقفت أمام تصريح للسيدة رايس، مستشار الرئيس للأمن القومي، جاء فيه ما معناه أن الفزع الظاهر في التعامل الأميركي مع مشكلة أو أخرى من المشكلات الطارئة والعابرة يمكن أن يؤدي إلى تجاهل المشكلات الأطول أمدا، مثل انتشار أسلحة الدمار الشامل وتدهور البيئة وبناء نظام دولي جديد.
في ظني أن وثيقة الاستراتيجية التي بين أيدينا تعكس جانبا من هذا التوجه. دليلي على ذلك أن الوثيقة رفضت أن تتعامل مع التحدي الروسي الذي يجسده الرئيس بوتين كواحد من الأخطار الثمانية العظمى التي تواجه الأمن الأميركي والتي سردتها الوثيقة خطرا بعد الآخر. ليس هذا فحسب بل لاحظت أن الشرق الأوسط لم يحظ بالاهتمام الذي توقع كثير من المعلقين أن تبديه الوثيقة تجاهه، وعلى كل حال لم أكن واحدا من هؤلاء، فقد تابعت على مدى فترة غير قصيرة مراحل متدرجة من تراجع اهتمام ولا أقول لا مبالاة أميركية تجاه الشرق الأوسط.
المقارنة السريعة بين الوثيقة الصادرة هذا الأسبوع ووثيقة استراتيجية الأمن القومي الصادرة العام 2010 تقدم تقييما غير متعمد لسياسة أوباما الخارجية خلال الأعوام الماضية. يبدو من المقارنة أن أوباما فشل في تحقيق هدف التقارب مع روسيا وحث بوتين على المشاركة في حل مشكلات دولية، بينما نجح في إخراج جيوش أميركا من العراق وأكثرها من أفغانستان كما وعد في وثيقة 2010 .
يبدو أيضا أن أوباما حقق نجاحا في تنفيذ ما وعد به في وثيقة 2010 عن تجاوز الأزمة المالية وحالة الكساد، إذ تصادف إعلان وثيقة 2015 مع بوادر انتعاش اقتصادي. نجح أوباما في تحقيق هذا الهدف بينما فشل في تحقيق وعده نقل الشرق الأوسط إلى الطريق نحو مستقبل أفضل. وقد علق محلل أميركي على هذا الفشل بقوله إن العرب هم الذين أجهضوا حلم أوباما وأحبطوا هدفا مهما من أهداف استراتيجية الأمن القومي الأميركي.
لا أحد توقع أن تخلو وثيقة استراتيجية قومية للأمن في دولة من الدول العظمى أو الطموحة من نص أو إشارات تؤكد تمسكها برسالتها. مرة أخرى تؤكد الاستراتيجية الأميركية تمسك واشنطن بالدفاع عن الديموقراطية، وإن أضافت هذه المرة إلى محاربة الفساد أداة أخرى في الدفاع عن الديموقراطية وهي التوجه إلى الشباب، وربما جاءت هذه الإضافة على ضوء تجربة ثورات «الربيع العربي»، والمخاض الأليم الذي يتعرض له الشباب في بلاد هذه الثورات، متحملين بشرف وجدارة مسؤولية المساهمة في نشوب هذه الثورات والإصرار على حمايتها.