يكاد يكون المغزى الفعلي لتعذر تفاهم اللجان النيابية على قانون جديد للانتخاب، انها تبحث بكد ملموس عن اسباب جدية لاستمرار نفاذ قانون 2008 على نحو مماثل للمبرر الذي قادها الى تمديد الولاية: لم تنتبه الى ان الوقت انقضى فجأة
لا يعدو خلاف اللجان النيابية المشتركة على قانون الانتخاب، في الجلسات الاربع المنقضية، الا صورة مكملة عن جلساتها وكذلك اللجان الفرعية وتلك المصغرة الاربع ما بين عامي 2012 و2014، قبل تمديدي ولاية مجلس النواب وبعدهما.
آنذاك خرجت اللجان تلك من مأزق انقسامها على الكمّ الكبير من المشاريع والاقتراحات في ادراجها ــ ولا تزال اياها اليوم ــ بحجة عدم جواز وضع قانون انتخاب في غياب رئيس للجمهورية اقرتها الهيئة العامة، فأمست التوصية هذه حائط مبكى.
بعد اربع جلسات في الشهرين المنصرمين كأن اللجان النيابية الخمس لا تزال في عام 2012: اصرار على رفض القانون النافذ الصادر عام 2008 من دون الذهاب الى قانون بديل، بل اصرار آخر على عدم الاتفاق على اي قانون سواه. كانت الذريعة نفسها في ظل 17 مشروعاً واقتراح قانون بين عامي 2012 و2014، ولا تزال في ظل اقتراحي القانون المختلط بعد استبعاد ما عداهما. ما ان تُبت آلية حتى تتنكّر لها اللجان، ثم تعود الى الوراء كي يمسي الخلاف ليس على الاقتراحات والمشاريع فحسب، بل على طريقة مناقشتها.
ما بات عليه الخوض في قانون الانتخاب بضعة معطيات، منها:
1 ــــ تجاهل قرار المجلس الدستوري في 28 تشرين الثاني 2014 وتعمّد اهماله، عندما ربط زوال الولاية الممددة لمجلس النواب بزوال الظروف الاستثنائية التي قضت بها، تبعاً لقاعدة اوردها القرار هي ان زوال الظروف الاستثنائية يفضي حكماً الى زوال التدابير التي تسببت بها. في الظاهر ليس في وسع المجلس الدستوري اتخاذ مبادرة من تلقائه، وليس له التدخّل في مرحلة ما بعد اصدار قراره، وقد لا يكون مطلوباً منه في ظل الاختصاصات المقيّدة المنوطة به في المادة 19 من الدستور. بيد ان واقع الامر مختلف تماماً استناداً الى قانونَي انشائه ونظامه الداخلي اللذين يتناولان قوة قراراته وطابعها الملزم للسلطات المعنية.
تقول المادة 13 من القانون 250 الرامي الى انشاء المجلس الدستوري ان قراراته «تتمتع بقوة القضية المحكمة وهي ملزمة لجميع السلطات العامة والمراجع القضائية والادارية، قرارات المجلس الدستوري مبرمة ولا تقبل اي طريق من طرق المراجعة العادية او غير العادية». بدورها المادة 52 من القانون 243 المتعلق بالنظام الداخلي للمجلس تكرر المضمون: «تتمتع قرارات المجلس الدستوري بقوة القضية المحكوم بها، وهي ملزمة لجميع السلطات العامة والمراجع القضائية والادارية، وتنشر في الجريدة الرسمية».
مفاد ذلك احدى آليتين لوضع قرار المجلس الدستوري موضع التنفيذ للمرة الثانية، بعد اولى عندما سلّم بتمديد ولاية مجلس النواب آخذاً بمبررات الظروف الاستثنائية، والثانية الآن بعد زوال تلك الظروف وتالياً التدابير الناجمة عنها. احدى هاتين الآليتين صدور قانون عن مجلس النواب يقصّر الولاية بعد انقضاء اسباب التمديد في ضوء اجراء الانتخابات البلدية والاختيارية، والاخرى قرار وزير الداخلية والبلديات بعد توافق مجلس الوزراء على دعوة الهيئات الناخبة وتحديد موعد الانتخابات النيابية العامة باكراً واتخاذ الاجراءات الادارية والمالية المكملة لها.
تتمتع قرارات المجلس الدستوري بقوة القضية المحكوم بها وهي ملزمة للجميع
اي من هذين الخيارين ليسا في الوارد. لا البرلمان مستعجل انهاء الولاية الممددة قبل موعده في 20 حزيران 2017، متذرعاً بالخلاف على القانون الجديد تارة ورفض القانون النافذ طوراً، ولا الحكومة ــــ كصورة مصغرة عن كتل مجلس النواب المنقسم على نفسه ــــ جاهزة هي الاخرى لتنفيذ قرار المجلس الدستوري بالحجج نفسها.
2 ــــ افرط الافرقاء في الايام الاخيرة في رفض خوض انتخابات نيابية جديدة وفق القانون النافذ، في وقت يوصدون الابواب دون التفاهم على آخر سواه. وخلافاً للمواقف المعلنة، يبدو قانون 2008 افضل الممكن للجميع بلا استثناء، بمَن فيهم التحالف الجديد بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية الذي اختبر جدوى تعاونه في الانتخابات البلدية والاختيارية، واظهر مقدرته على ارباك الاطراف الآخرين تيارات واحزابا كما عائلات سياسية في مناطق يقاسمهم النفوذ الانتخابي عليها. افصحت عن هذا المنحى انتخابات بيروت وزحلة ودير القمر (انموذجاً ذا دلالة في الشوف)، وربما اعاد تأكيده ايضاً في القبيات وفي مناطق اخرى في الشمال يشترك فيها ناخبون مسيحيون وناخبون غير مسيحيين. على ان الرسالة المثلى التي اطلقها التحالف المسيحي في الانتخابات البلدية والاختيارية ــــ وإن بالايحاء نظراً الى اختلاف قراءة نتائجها عن الانتخابات النيابية ــــ ان استحقاق 2017 ربما لا يبقي حلفاء انتخابات 2009 في الموقع نفسه.
3 ــــ على اهمية الخلاف على قانون الانتخاب، وتمسك كل من الافرقاء المعنيين بالصيغة التي اقترحها على انها مفتاح انتصاره، يعرفون جميعاً ان الاكثرية النيابية لا ينجبها قانون الانتخاب فحسب، بل تعوّل اساساً على التحالفات المتينة المنسجمة، واحياناً المتنافرة. لم يتغير قانون الرئيس فؤاد شهاب على مرّ اربعة استحقاقات متتالية (1960 و1964 و1968 و1972)، ولم يصر الى تعديل اي من احكامه طوال 12 عاماً، الا ان القانون نفسه اثمر في كل دورة اثمر غالبية نيابية مختلفة عن سواها. بعد الغالبية الشهابية عامي 1960 و1964، انقسم المجلس بين اقلية شهابية واخرى مناوئة لها في انتخابات 1968، قبل ان تختفي تماماً الاكثرية الشهابية في انتخابات 1972.
على نحو مماثل اثمر قانون 2000 غالبيتين متناقضتين في دورتين متعاقبتين: اولى سنتذاك سيطر فيها حلفاء سوريا على ما يزيد على ثلثي البرلمان، سرعان ما انتقلت الاكثرية المطلقة في الدورة التالية، 2005، في ظل القانون نفسه، الى الاعداء المحدثين لسوريا وبينهم مَن كانوا «حلفاء دم» معها لسنوات خلت. رفضت قوى 14 آذار اي تعديل في القانون الذي اطلقت عليه «قانون غازي كنعان» ــــ وهو لم يكن كذلك ــــ واصرت على خوض انتخابات 2005، بعد طرد الجيش السوري، وفق احكامه، متحالفة مع كتلتي الرئيس نبيه بري وحزب الله حليفي دمشق، فإذا الكتل الرئيسية الاربع (بري وحزب الله وتيار المستقبل والنائب وليد جنبلاط) ــــ تواطؤاً او بالاكراه ــــ تخوض ائتلافاً انتخابياً اعطى قوى 14 آذار الغالبية النيابية. وهي الكتل النيابية نفسها في ائتلاف انتخابات 2000 (على رأسها الرئيس رفيق الحريري) مثلت الغالبية الموالية لسوريا.
ليس القانون صانع الاكثريات مقدار التحالفات. اسطع صورها يوم غادر جنبلاط في آب 2009 قوى 14 آذار، شهراً بعد انتخابات حزيران، فغصّ حلفاؤه السابقون باكثرية لم تعش اكثر من ذلك الوقت. مذ ذاك، الى اليوم، تتلاعب بالبرلمان اصابع اقليات ليس في وسع اي منها ترجيح كفته.