مِن كثرة المناداة بشعار «أوعى خيَّك»، أصيبَ تفاهُم معراب بـ»صَيْبَة عين» خبيثة. فقد بدأت سنة 2017 بحماسة «عونية»- «قواتية» عالية للدفاع عن التفاهم، وصَلت إلى حدِّ تخوين كلّ من يَطرح سؤالاً. وانتهت السنة بحماسة «عونية»- «قواتية» عالية للتشكيك أو للتشنيع بـ»خيَّك». بين «التيار» و»القوات»، في السنة الأولى-حبّ، يكاد يَصلح القول: «أهواكَ بلا أملِ».
في مطلع العام 2015، وقفَ الدكتور سمير جعجع، بعد الجلسة الفاشلة الرقم 17 لانتخاب رئيس للجمهورية، ليقول: «بعد 30 عاماً من الخصومة السياسية» (وهي كانت دموية أيضاً) «يحق لنا نحن و«التيار» أن نعيش يومين مِتل الخلق». وفي واقع الأمور، لم يكن عون وجعجع وحدهما، بل مسيحيّو لبنان عموماً يريدون أن يعيشوا «يومين مِتل الخلق»، بعد كلّ هذه السنوات المؤلمة.
فالهزائم المسيحية الكبرى كانت تحديداً في هذه السنوات الـ 30، وما تخَللها من حروب «تحرير» و«إلغاء» انتهت بتكريس السيطرة السورية على بعبدا ووزارة الدفاع و«المنطقة المسيحية» الوحيدة التي كانت باقية خارج السيطرة.
في 2 حزيران 2015، نجحت ماكينة التقارب «العونية»- «القواتية»، (الوزير ملحم رياشي والنائب ابراهيم كنعان) وبعد زيارة جعجع للرابية، في إقرار «إعلان نيّات» بين الطرفين تَضمَّن لائحةً طويلة من البنود. وفي حيثياته أنّ الطرفين «أجرَيا مراجعةً لتنقية الذاكرة من مناخات الخصومة السياسية والتطلّع نحو مستقبل يَسوده التنافس السياسي الشريف و/أو التعاون السياسي».
في 18 كانون الثاني 2016، أعلن جعجع ترشيح عون لرئاسة الجمهورية، وتمَّ توقيع «تفاهم معراب». ومنذ ذلك الحين، اعتبَر جعجع أنّ له الفضلَ في منحِ ترشيح عون ما كان ينقصه لتكتملَ التغطية المسيحية وتغطية 14 آذار. فالرئيس سعد الحريري كان يدعم النائب سليمان فرنجية. وموقف جعجع هو الذي رجّح كفّة عون.
كان العام 2016 ساخناً. فيه انقلبَت الموازين وتنازَع أركان 14 آذار على ترشيح أحد مارونيَين من 8 آذار: إمّا عون وإمّا فرنجية. وانتصَر عون لأنّ «حزب الله» لم يستطع «إغضابَ» حليفِه المسيحي الذي سلّفَه كثيراً لسنوات، وإنْ كان «الحزب» يفضّل فرنجية الأكثر «تأصّلاً» في التحالف السياسي.
العالمون يقولون: «كان اتّفاق معراب ظاهرياً «زواجَ حُبّ»، لكنّه في العمق «زواج مصلحة» ينتظر فيه كلُّ طرف تحقيقَ المكاسب القصيرة أو المتوسطة أو الطويلة الأمد».
كان عون يريد تحطيمَ حظوظِ فرنجية، وجعجع يتقاطع معه. واعتبَر عون أنّ حصوله على دعم جعجع سيكون الصدمة التي ستتكفّل بتحوُّلِ الجميع إلى تأييده. فلا بأس بأن يبذلَ جهداً لإقناع «حزب الله» بتفاهمٍ مرحلي مع «القوات» تكون له مفاعيله الاستراتيجية، لأنّه سيوصِل حليفاً له إلى رأس هرمِ السلطة في لبنان.
في المقابل، كانت معراب محرَجة جداً. فالحريري «حشَر» جعجع بدعمِه فرنجية. واعتقَد جعجع أنّ عون سيَجعل «القوات» شريكاً له الأولوية في العهد، وأنّ عون في موقع الرئاسة، بدعمٍ دولي، سيُغلِّب مؤسسات الدولة، أي تفاهم معراب على «تفاهم مار مخايل». وراهنَ على أنّ «القوات» ستكون الفريقَ المتماسك والأقوى مسيحياً في مراحل لاحقة.
وصَل عون إلى بعبدا في 31 تشرين الأوّل 2016، على رغم اعتراض قوى أساسية أبرزُها الرئيس نبيه بري، لا رفضاً للنهج السياسي، بل لانعدام الكيمياء.
إنطلقَ العهد بحصول الحريري على المكافأة: العودة إلى لبنان وإلى السراي الحكومي وإلى زعامة الطائفة وتيار «المستقبل». وهو كاد يخسرها جميعاً، وليس مستعدّاً للتخلي عنها أيّاً كان الثمن.
تولّى «حزب الله» معالجة التباينات بين حلفائه، ونجَح في إرساء «التسوية» التي سار فيها الحريري: «الحزب» يدير الشؤون الاستراتيجية (السياسة والأمن وقرار الحرب والسلم والسلاح) والحريري يحصل على مكاسبِه المعروفة. وهذه الصيغة تُذكّر بالتسوية الحريرية مع المرحلة السورية (الرئيس رفيق الحريري يدير المشاريع، فيما قرار لبنان السياسي والأمني في دمشق).
وفي هذه المعادلة، وجَد «التيار الوطني الحر» أنّ الفرصة مؤاتية ليستفيد من طرفَي الاتفاق: يستقوي بـ«حزب الله» استراتيجياً ويقطف ثمار المكاسب الأخرى مع الحريري.
ولهذا، فضَّلَ الحريري أن يكون «التيار الوطني الحرّ»، القوي أو «المستقوي»، هو شريكه المسيحي الأوّل، وليس جعجع. وهكذا تخلّى الحريري للمرّة الثانية عن حليفه المسيحي الآذاري. والمرّة الأولى كانت عندما دعاه إلى سحبِ ترشيحه لرئاسة الجمهورية بداعي استحالة أن تطالب 14 آذار برئاسة الجمهورية لجعجع فيما تصرّ أيضاً على رئاسة الحكومة للحريري!
في 19 كانون الأوّل 2017 ولِدت الحكومة الحريرية، وفيها أرضى عون «القوات» بأربع مقاعد وزارية (3 قواتيين وميشال فرعون)، ومنها نائب رئيس الحكومة.
ولم يلقَ الأمر اعتراضات، خصوصاً أنّ الحكومة كان مفترضاً أن تعيش حتى انتخابات نيابية كانت مقرّرة في الربيع الفائت. ولكن تمّ التمديد للمجلس حتى أيار 2018. وهكذا عاشت الحكومة الحريرية عمراً لم يكن مكتوباً لها. وخلاله بدأت تكبر الأزمة بين «القوات» و«التيار»، وفي موازاتها أزمة بين «القوات» والحريري.
إندلعت النار المسيحية تحت الرماد، عندما بدأت الحسابات الانتخابية تفعل فِعلها، بدءاً بالبترون عقرِ دار باسيل. ففي 17 كانون الثاني 2017، أعلنَ النائب أنطوان زهرا أنه لن يترشّح للانتخابات. وهذا يعني أنّ «القوات» خسرَت جزءاً أساسياً من قوّتها التجييرية هناك. فهي تبقى قادرةً على إقناع ناخبيها بالاقتراع لمرشّحيها والحلفاء، كبطرس حرب، لكنّها تصبح عاجزةً عن التجيير للخصم السياسي، أي لباسيل، إذا تحالفت معه.
وصَلت الرسالة إلى باسيل، فهزيمتُه البترونية مجدّداً يُراد لها أن تكون عائقاً أمام انتخابه رئيساً للجمهورية، لاحقاً. وهذه الهزيمة تصبُّ في مصلحة جعجع. وطلبَت «القوات» أن يكون الاتفاق على البترون جزءاً من توافقات شاملة. لكنّ باسيل رفضَ العرض وقرّر الردَّ لاقتناعه أنه قادر على المواجهة.
بدأ التوتّر يرتفع مع «القوات» انتخابياً وفي داخل مجلس الوزراء حيث قرَّر باسيل الانتقامَ أيضاً. وفي أيار 2017، بدأت تظهر إلى العلن أزمة «القوات» في الحكومة:
1 – تمّ استفراد وزراء «القوات» في الحكومة، فقد شكا هؤلاء من نقصٍ في الشفافية والضوابط القانونية في الملفّات والمشاريع المنوي إطلاقُها في ملفات بواخر الكهرباء وتلزيمات النفط والغاز والاتصالات والتعيينات وسواها، والتي تمَّ فيها التوافق بين الحريري وباسيل.
وتقرّبَ باسيل كثيراً من الحريري مستعيناً بنادر الحريري، وعَمد وزراء «المستقبل» و«التيار» إلى معاقبة زملائهم «القواتيين» بتعطيل كلّ ما يتعلق بوزاراتهم. وما زال التعطيل ساريَ المفعول حتى اليوم.
2 – المنحى التطبيعي مع دمشق.
كان صيف «القوات» في الحكومة ساخناً على خطَّي «التيار» والحريري. وقد حاوَل جعجع إجراءَ اتصالات مباشرة وغير مباشرة بعون، لأنه الشريك – الرمز الذي تمَّ التفاهم معه على «وثيقة معراب». فردَّ عون بالقول إنّه عندما وقَّع «تفاهم معراب»، إنّما فعلَ ذلك من خلال موقعه كرمز لـ«التيار الوطني الحر»، لكنّه بات اليوم رئيساً للجمهورية ويفضّل أن لا يمارس دوراً حزبيّاً.
وطلبَ عون من جعجع أن يتواصل مع باسيل مباشرةً، وأن يتفهَّمه من دون حسابات مسبَقة أو حساسيات. لكنّ باسيل لم يُظهِر رغبةً في الليونة، لأنّه شعرَ بأنّ استمراره في المعركة، مدعوماً، يوفّر أرباحاً أكبر. وبدا أنّ عون لا يريد إضعافَ باسيل، خصوصاً في وجه جعجع. فهناك استحقاقات كثيرة قاسية بينهما في مراحل مقبلة.
وفي 22 تشرين الأوّل، لوَّح جعجع من أوستراليا بأنّ وزراء «القوات» سيستقيلون من الحكومة إذا استمرّت في نهجها. وهنا بَرز موقع أساسي للحريري. فلقاء كليمنصو، أُريدَ منه فرملةُ اندفاع الحريري نحو باسيل. وجعجع أيضاً كان يريد تحقيقَ هذا الهدف، كما كان يريد فرملة اندفاع الحريري في مسار تسوية 2016 التي كرّست انتصار «حزب الله».
ولكن، في 4 تشرين الثاني جاءت الصدمة بأزمة الحريري في السعودية. وقد اضطلع عون بدورٍ أساسيّ في إنهائها لمصلحة التسوية. وهذه «المهمّة» قابَلها «حزب الله» بمكافأة رئيس الجمهورية. فقد تقرَّبَ أركان لقاء كليمنصو من عون، وقام «الحلف الخماسي» الذي يستعدّ للتنسيق في انتخابات أيار وقيادة البلد في المرحلة المقبلة، بمعزل عن الآخرين.
تعمَّد كثيرون تحميلَ جعجع مسؤوليةً عمّا تعرّض له الحريري في الرياض. ووجَد خصومُه فرصةً لتعميق الهوّة بينه وبين حليفه الآذاري. والعلاقة بين الحليفين لا تزال «واقفة على بحصة». وأمّا علاقة جعجع بباسيل فملتهبة على رغم خراطيم المياه المتدفّقة من «صهريج كنعان – الرياشي للمهمّات الطارئة».
طُرِحت فكرة عزلِ «القوات» بإجراء تعديل حكومي سريع، لكنّ خبراء السياسة في «الحلف الخماسي» نصحوا بالتريّث في ذلك إلى ما بعد الانتخابات. فتصوير «القوات» شهيدةً يمكن أن يستقطب المسيحيين ويتيحَ لها أن تربح الانتخابات.
إذاً، كانت 2017 سنةً أولى من الحبّ الفاشل بين «التيار» و«القوات». وأساساً هما لم يعتادا إلّا «الغرام والانتقام». وفي «أشهُرِ العسل» الأولى، اكتشفَ جعجع أنّ المستفيد من «تفاهم معراب» هو عون وأركانه الذين وصلوا إلى مفاصل السلطة في 2016 وتحكّموا بها في 2017… ويستعدّون للتحكّم بها في 2018.
بالتأكيد، يريد جعجع أن يُنهيَ هذا المسار التنازلي، وأن «ينهض» الحريري، ولكن.. مُكرَهٌ «خيَّك» لا بطل!