ودَّعْعنا قبل أيام، ذلك العام الحافل بالأحداث الممتدة ما بين المواقع التحوليّة، المُفرح منها والمحزن، الصالح منها والطالح، المؤمّل منها بالإنقاذ والخلاص والمغرق في الغوص في غيَاهب المآسي المتجاوزة لكل الحدود والمبادىء الإنسانية. أمّا ومأساوية أحداث العام 2016 قد اقتصرت وحشّيتُها المفرطة على ما شهدناه في جوارنا، وبالتحديد على الساحة السورية وفي طليعتها حلب التي طاولها الغزاة من كل حدب وصوب، واستهدفها الموت والدمار بأطفالها وشيوخها وعمرانها وحضارتها، دون أن نتجاهل الأحداث الإرهابية التي حصلت في أنحاء متعددة من العالم ومنها تركيا التي انتهى فيها العام 2016 بمأساةٍ طاولت مواطنين لبنانيين كانوا يحتفلون بليلة رأس السنة، ففاجأتهم المأساة وأدركهم الموت ولو كانوا في بروج مُشيّدة، أما وأحداث العام 2016 قد مرّت على لبنان بوضعية أمنية مقبولة، وكانت الأشهر الأخيرة من العام المنصرم قد حفلت بأحداث إيجابية أعادت إلينا بعض ملامس دولة تصالحتْ وتسامحتْ وتوافقتْ جهاتُها وفئاتُها على حدود دنيا، مما أسفر بالنتيجة عن انتخاب رئيس للجمهورية بعد تعطيل لهذا الحدث المنتظر ما يناهز العامين والنصف، كما أسفرت عن تشكيل حكومة كائنا ما كانت أوضاعها وتناقضاتها والمآخذ التي طاولتها لجهة الموازين غير المتساوية والترهّل في عدد وزرائها، وفي مجهوليّة المهام التي أُعطيت لوزراء الدولة فيها، فهي تبقى خطوة جيدة تُحتَسَبُ بين المستجدّات الإيجابية التي أنتهت إليها تحوّلاتُ وتطوّراتُ أواخر العام المنصرم، كما أسفرت عن خطاب القسم ولواحقه من أقوال رئيس الجمهورية وممارسته التي نهجت إلى الكلام المتزن والمتوازن، مما كان له أثره الهامُّ في تعبيد طريقٍ مزروع بالحفر والمطبات تجاه ما أمكن من الحياة الطبيعية الآمنة والمستقرّة والمصحِّحة للأوضاع المضطربة، والغارقة في مهاوي الفساد الذي وصل إلى حدودٍ غير معقولة ومهددة بإفشال كل المحاولات الإصلاحية والتغييرية. وعليه وبما أننا دخلنا فعلاً في مرحلةٍ جديدة يتمسك اللبنانيون بايجابياتها ونوافذِ الأمل التي فتحتها في ظلمات العيش الذي خيّم على حياتهم العامّة والخاصة، فقد عزّز هذا التوجه لديهم تلك التطورات الأخيرة التي أضحت كُلٌّ من سوريا والعراق، وتركيا، ساحات لها، فباتت تهدّد باتّساع رقعتها ودمويتها إلى أرجاء المنطقة كلها بما فيها لبنان، من هنا واقع الترحيب بكل ما من شأنه أن يسهّل عمليّة التبّريد والتحييد، والقيام بكل ما من شأنه، إبقاء هذا البلد المستهدف، بعيدا عن مدى الحريق المتصاعد بلهبه وأخطاره.
إلاّ أن ذلك لا يمنعنا من التوقّف أمام مرحلة من التوقعات التي يمكن أن تجد لها منفذا عملانيا يعيق حركة التقدم باتجاهات واعدة، فبالرغم من المؤشرات الإيجابية التي وصلت بنا إلى حدّ تأليف الحكومة واستحصالها على ثقة المجلس النيابي من خلال بيان وزاري فضفاض يتجاوز التناقضات القائمة، فإن المهمّة الأولى التي تنتظرها ومعها المجلس النيابي، تتمثل في إقرار قانون جديد للإنتخابات تدور الدوائر والمناورات حول مشروعات عديدة، بصدده وبالرغم من محاولات التقريب في وجهات النظر ، تبقى مصاعب جمّة قائمة في وجه إقراره، الأمر الذي أعاد كثيرا من الجهات إلى دائرة التفكير في التمديد لقانون ال 60، الأمر الذي وإن أيّده كثيرون، فهو يواجَهُ باعتراضاتِ كثيرين آخرين سعيا إلى «جهاد أصغر أو أكبر» يرى البعض أن عوائقه ومطبّاته ستقوى وتشتد مع مرور المراحل، وأنّ ما كان من إيجابيات تحقّقت في العام المنصرم، ما هي الاّ مرحلة أولى مرّت على خير وسلام، وما هو مقبل من المراحل لن يكون سهل التمرير والتحقيق مثلما مرّت به مرحلتا إنتخابات الرئاسة الأولى وتشكيل الحكومة، دون أن ننسى خطورة الوضع الإقتصادي المهتز والذي وبالرغم من أجواء التفاؤل التي يطلقها المسؤولون في كل اتجاه والتي تحتاج إلى جهود عملاقة لتنطلق إلى الوجود الفاعل والمؤثر، محميّة من آثارٍ وأمراضٍ عديدة، تُمسك بخناقها وفي طليعتها، إمتداد الفساد بوقاحة لا تُحدّ، والمصالح الفئوية والحزبية والميليشياوية، إلى جميع المرافق الدسّمة بما يمكن أن تنتجه من سرقات وسمسرات ووضع اليد على الينابيع المنتجة للمال وللسلطة.
ومع تناولنا في ما سلف، عرضا لأوضاع البلاد مع مطلع العام الجديد لن نُغفل ذلك اليوم المتشح بالسواد الذي أعلنت فيه «جريدة السفير» عن إطفاء أضوائها وكبح جماح مطابعها وشطب دورها الأساسي في مجال الإعلام اللبناني والعربي، وهو ما يشكّل ضربة قاصمة لثروة وطنية، لطالما فاخر لبنان بها وبأثرها البالغ على مدى الساحتين الإقليمية والدولية. إن إقفال «السفير» هو قطعٌ لأوصالٍ حضارية هامّة في الجسد اللبناني المضيء والمثمر، وأخشى ما نخشاه أن يكون إقفالها مقدمة قهرية تتناول وسائل إعلام لبنانية أخرى، أَعْلنَ الكثيرُ منها عن أن الأزمة الحادة قد باتت تطبق على أعناقها، وهي لطالما انتظرت في الأشهر الأخيرة، ترياقا ما، تمدّها به معالجات الدولة، إلاّ أن الوقت يمر، والأزمة تشتد وتتفاقم، ولئن كان الإعلام الورقي يعاني نتيجة للمستجدات التكنولوجية من تراجع بات يدفع بالكثير من الصحف إلى الإقفال أو الوقوف على حافته إلا أن النشرة الورقية تبقى في ضمير اللبنانيين وعاداتهم اليومية وفي إطار ثقافاتهم الراقية والمتميزة. وإلى «السفير» التي غابت شمسها واضمحل دفؤها، نرجو لها عودة ما من خلال حلٍّ ما يدفع بها مجدّدا إلى الحياة، ويعيد بقية وسائل الإعلام المهددة، إلى قواعدها الراسخة والثابتة والفاعلة.