نشهد منذ بضعة أيام مهرجاناً أو مسلسلاً أو تمثيلية مناقشة موازنة سنة 2022، والتي مرّ منها نحو أكثر من ثلثي السنة الجارية، والسؤال الذي يطرح نفسه هو ما الذي يُناقشونه تحديداً، وما هي الأهداف المختبئة وراء كل مجموعة؟ الجدير بالذكر أن صندوق النقد الدولي فرض كأولوية أربعة قوانين أساسية كشرط لمتابعة المفاوضات مع الدولة اللبنانية. والأموال الموعودة من الصندوق لا تتجاوز الـ 3 مليارات دولار، مقسّمة على أربع سنوات مقبلة، في حال نُفّذت الإصلاحات بجدية وشفافية وحوكمة.
إنّ القانون الأول الذي اشترطه الصندوق هو قانون رفع السرية المصرفية، والذي نوقش وأُقرّ في الجلسة التشريعية الأخيرة، بعدما فُرّغ من مضمونه الأساسي، لكن رُدّ مرة أخرى لدراسة معمّقة، ولا نزال في نقطة الصفر أو بالأحرى تراجعنا خطوات عدة.
أما القانون الثاني الذي شدد عليه الصندوق هو قانون «الكابيتال كونترول»، والذي ينكب من منصة إلى أخرى منذ أكثر من ثلاث سنوات، وإقراره لم يعد يُجدي نفعاً على الأموال القديمة، التي هُدرت وصُرفت وسُرقت وتبخّرت وتحول هذا المشروع القانون الوهمي إلى كرة نار بين الجهات السياسية والأحزاب وغيرها، بعيداً عن أهدافه المالية والنقدية والإقتصادية.
أما القانون الثالث المفروض على الدولة اللبنانية فهو قانون «خطة التعافي» والذي ليس فيه شيء من التعافي، لا بل أصبح خطة إفلاسية، وتصفية لما تبقّى من أصول وأموال المودعين والشركات والإقتصاد.
أما القانون الرابع المشروط فهو قانون موازنة العام 2022 الذي مرّ منه أكثر من 9 أشهر من الأشهر الـ12، والذي عليه أن يُمثّل خطة الإنقاذ، واستراتيجية إعادة النمو والرؤية الواضحة على المدى القصير والمتوسط والبعيد.
ما شهدناه من مناقشات بطولية تلفزيونية، وما نقرأه حول هذه الموازنة الوهمية ليس أكثر من بنود عدة منفصلة وعشوائية بدلاً من أن يكون لدينا خطة متماسكة ومتوازنة ومتكاملة لمواجهة أكبر أزمة إقتصادية وإجتماعية في تاريخ العالم.
من جهة أخرى إن الموازنة المقترحة مبنية على أسعار صرف عدة، بخلاف ما طلبه الصندوق بتوحيد سعر الصرف تحت منصة واحدة ورسمية. هناك سعر الصرف الأول والرسمي والوهمي هو 1515 ليرة، أما سعر الصرف الثاني فهو 12 الفاً للدولار الجمركي، و20 ألفاً على الإيرادات. والمشروع يغض النظر عن منصة صيرفة شبه الرسمية، ويطمرون رؤوسهم بالتراب لا بل بالوحول أمام سعر صرف السوق السوداء المتحكّم بأياد عدة داخلية وأيضاً إقليمية ودولية.
نُدرك تماماً أنه من المستحيلات تثبيت سعر الصرف لأنه ليس لدينا عملات صعبة تسمح لنا ذلك، وسعر صرف عائم سيكون «سيد الموقف» والحقيقة المرة التي علينا أن نتقبلها. لكن نقبله عائماً تحت منصة رسمية وتدقيق دولي واضح وليس منصات تلفونية بين أياد سوداء تتحكم بمصيرنا وحياتنا.
إضافة إلى ذلك، إن الموازنة المقترحة مبنيّة على الإيرادات وخصوصاً الإستيراد والتي حصلت في الأعوام 2019، 2020 و2021، ونذكّر بألم وحزن أن أكثرية عمليات الإستيراد التي حصلت في هذه السنوات الأخيرة، كان الجزء الأكبر منها للنفط، والقمح والأدوية، والتي ذهب معظمها إلى خارج البلاد في عمليات تهريب منظّمة حيث فُرّغ الإحتياطي بدعم واهم لم يستفد منه اللبنانيون وخلط كل الأوراق وضاعت الأرقام الحقيقية والواقعية للإستيراد.
إن مسودة هذه الموازنة هي بالحقيقة سوداوية وضرائبية بإمتياز حيث القسم الأكبر من التمويل والإيرادات مبني على زيادة الضرائب. فبحسب خبرتنا، ومعرفتنا بأرضيتنا فإن زيادة الضرائب لم ترفع يوماً مداخيل الدولة لكنها زادت التهريب ودعمت الإقتصاد الأسود على حساب الإقتصاد الأبيض والشفاف.
إضافة إلى ذلك، إن الموازنة المقترحة تُخبّئ فجوة قيمتها نحو 843 مليون دولار (فريش)، من دون أي خطة لتمويل هذه الفجوة، علماً أن الصندوق سيُموّل المشاريع وليس العجز.
أخيراً وليس آخراً إن هذا المشروع التخريبي لا يذكر الدين العام كأنما طُويت هذه الصفحة وطمرت في الأدراج والدهاليز، كشوف المودعين وجنى عمرهم وأموالهم المهدورة والمتبخرة والمنهوبة.
والوهم يتتابع عندما يذكرون ويتوقعون نسبة نمو 2 % و3 %. بينما يُدمرون يومياً ما تبقى من الإقتصاد.
في المحصّلة، إن هذه الموازنة هي تمثيلية جديدة، أبطالها السياسيون الذين يتبارون فيما بينهم، قبل إستحقاقات كبرى، حيث ينتظرون كلمة السر إذا أتت، ويحاولون «الضحك» على صندوق النقد، وكسب بعض الوقت، بينما الخاسر الأكبر للوقت وأمواله وحياته هو اللبناني الذي يحاول أن يصمد ويتعايش، في هذه الوحول المتحركة.