هل يمكن أن تتكرّر تجربة انتخابات 2005 مع انتخابات أيار 2022؟ هل يمكن أن تنقلب التوازنات داخل مجلس النواب؟ وهل يقبل حزب الله وحلفاؤه بتغيير بهذا الحجم أم يحاولون تأجيل هذه الإنتخابات؟
عاش مجلس النواب المنتخب في العام 1972 حتى العام 1992. كان آخر مجلس نيابي ينتخب على أساس عدد الـ99 نائباً وقانون الستين الذي أرساه الرئيس فؤاد شهاب وكانت فلسفته تقوم على احترام التعددية والإستمرارية والإستقرار السياسي وعمل المؤسسات. أربع دورات انتخابية جرت بموجب ذلك القانون في الأعوام 1960 و1964 و1968 و1972. بالتمديد وبسبب تعذر إجراء الإنتخابات خلال الحرب عاش هذا المجلس 20 عاماً. انتخب الياس سركيس وبشير الجميل وأمين الجميل ورينيه معوض والياس الهرواي. وأمسك بمطرقة رئاسته كامل الأسعد حتى العام 1985 وحسين الحسيني حتى العام 1992.
عندما ذهب من بقي من نواب 1972 على قيد الحياة إلى الطائف كانوا يدركون أن إنجاز هذا الإتفاق يعني حتماً إنهاء مجلسهم ولكنهم ما كانوا على يقين أن دورات الإنتخابات الآتية بعد عهد الوصاية ستخرجهم تباعاً من تحت سقف البرلمان وأن قوانين الإنتخابات الآتية بعد الطائف ستفصل على قياس عهد الوصاية السورية لكي تملأ المقاعد بالمحاسيب والأزلام والموالين. منذ العام 1992 تم ضرب الحياة السياسية في لبنان وحصل الإنقلاب على مفهوم فؤاد شهاب للمؤسسات وعلى رأسها المؤسسة الدستورية.
بعد الطائف جرت ست دورات انتخابية. في الأعوام 1992 و1996 و2000 و2005 و2009 و2018. اثنتان منها كانت مخضبة بالروح الثأرية وواحدة ارتوت بالدم لأنها كانت تحمل تباشير التغيير الحقيقي في لبنان في ظلّ عهد الوصاية. انتخابات العام 1992 أسّست لتغطية تشريعية لتلك الوصاية، وانتخابات 2005 كانت لاستعادة ما سلبته انتخابات 1992. قبل أن تحصل تلك الإنتخابات ومع توقّع النتائج التي كان يمكن أن تسفر عنها كان القرار باغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005. اليوم على أبواب انتخابات أيار 2022 ومع توقّع تغيير المعادلات داخل المجلس هل يمكن أن تمرّ الإنتخابات على خير؟ أم ستكون مخضبة بالدم لمحاولة منع التغيير؟
بين 1960 و1992 لم تحصل محاولات لمنع التغيير السياسي الديموقراطي بالدم. الأكثرية النيابية المؤيّدة لفؤاد شهاب والمتحالفين مع نهجه أمّنت انتخاب شارل حلو خلفاً له لأنّه سمّاه واختاره. النهج والمكتب الثاني تدخّلوا بما تيسّر لهم من وسائل لتحقيق انتصار نيابي في انتخابات 1968 وتحقّق لهم ذلك ولكنّهم لم يستطيعوا أن يؤمّنوا انتخاب الياس سركيس الذي اختاره شهاب أيضاً. بأكثرية صوت واحد فاز سليمان فرنجية. هذا المجلس نفسه أعاد انتخاب الياس سركيس في العام 1976 ثم بشير الجميل وأمين الجميل في العام 1982 وعجز عن انتخاب رئيس في العام 1988 وأقرّ اتفاق الطائف وانتخب رينيه معوض بعد عمليات نقل جوية إلى مطار القليعات في الشمال ثم انتخب الياس الهراوي في شتورة. كان النوّاب يُدعَون فيلبّون. الإنقلاب الأول بعد الطائف
بعد الطائف كان من المفترض أن تجري الإنتخابات النيابية في ربيع العام 1994 بعد زيادة عدد النواب إلى 128 وتعيين العدد المطلوب منهم لاستكمال النصاب القانوني. كان هذا التعيين بمثابة انقلاب ناعم للسيطرة على مجلس 1972. وكانت المعركة الأساسية ستحصل في ربيع 1994. عندما سقطت حكومة الرئيس عمر كرامي في 6 أيار 1992 نتيجة ما سمّي بثورة الدواليب احتجاجاً على انهيار سعر صرف الليرة، اتخذ النظام السوري القرار بتغيير المعادلة. كان يخشى تحالفاً سياسياً ضدّه قبل أن يرسّخ سيطرته وكان يشكّ بوجود مؤامرة بين الرئيس الياس الهراوي ورفيق الحريري والقوات اللبنانية ووليد جنبلاط وبتدخل من السفير جوني عبدو مدير المخابرات في عهد الرئيس سركيس. لذلك فرض تعيين رشيد الصلح رئيساً لحكومة انتقالية وأجبر مجلس النواب على تعديل الدستور وتقصير ولايته. حصلت مقاطعة مسيحية شاملة لتلك الإنتخابات برعاية البطريرك مار نصرالله بطرس صفير وبتحشيد سياسي من القوات اللبنانية. منذ ذلك التاريخ اتُّخِذ القرار بالقضاء على القوات. بعد تفجير كنيسة سيدة النجاة في زوق مكايل في 27 شباط 1994 تمّ تنفيذ ذلك القرار وتمّ حلّ الحزب واعتقال رئيسه سمير جعجع. لم يكن من الممكن استكمال الإنقلاب على الطائف إلا بمحاولة إخراج القوات من المعادلة وجعل الآخرين قانعين أو خانعين حتى لا يحصل لهم ما حصل مع القوات. بفعل تلك الضربة للمؤسسة التشريعية تكرّرت المحاولة بنجاح في العام 1996 لتحصل المواجهة المحدودة في العام 2000 ولتؤسّس لمواجهة أكبر في العام 2005.
تحولات 2005 والقرار الكبير
قبل انتخابات ربيع 2005 كانت ثمة محطات وتحوّلات. كانت حصلت تفجيرات 11 أيلول 2001 في الولايات المتحدة الأميركية التي ردّت باحتلال أفغانستان والعراق ووصلت قواتها إلى الحدود السورية وحمل بعدها وزير خارجيتها كولن باول لائحة الشروط المطلوبة من النظام السوري. وكان توفي حافظ الأسد وخلفه ابنه بشار وانسحب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان وبقي “حزب الله” محتفظاً بسلاحه وكان أميل لحود رئيساً للجمهورية في لبنان.
في العام 2004 كان القرار 1559 الذي طلب سحب الجيش السوري من لبنان ونزع سلاح “حزب الله” وانتخاب رئيس للجمهورية في الموعد الدستوري وعدم التمديد للرئيس أميل لحود. ولكن النظام السوري بالتحالف مع “حزب الله” كان اتخذ القرار بالمواجهة. كان يدرك أن التنازل في موضوع انتخاب الرئيس سيفرض عليه وعلى “حزب الله” التنازل في الشروط الأخرى بالإنسحاب ونزع السلاح. وكان يدرك أن هذا التنازل أيضاً سيقود إلى التغيير بالطريقة الديموقراطية في انتخابات العام 2005. كان هناك تحالف صار معلناً بين البطريرك الماروني نصرالله صفير ومعه لقاء قرنة شهوان والقوات اللبنانية وبين الرئيس رفيق الحريري والنائب وليد جنبلاط… استدعي الرئيس رفيق الحريري إلى سوريا لإجباره على قبول التمديد للحود. هدّده بشار الأسد بتدمير لبنان على رأسه ورأس وليد جنبلاط. رفض جنبلاط أن يذهب إلى دمشق. طُلِب من الرئيس نبيه بري إتمام عملية التمديد واتُّخذ القرار بالتخلّص من رفيق الحريري والقضاء على أي حلف يمكن أن يبدِّل توازنات العهد السوري في لبنان. بدأت عمليات الإغتيال بمحاولة اغتيال مروان حماده ولكن التحالف استمرّ. كانت الإستطلاعات تشير بوضوح إلى الإنقلاب الذي يمكن أن يحصل. قبل الإنتخابات بثلاثة أشهر تم تنفيذ قرار اغتيال الحريري. ولكن بدل أن تقفل العملية الطريق أمام التغيير سرّعت الثورة المضادة في 14 آذار. نجح النظام السوري في التمديد للحود ولكنه أُجبِر على الإنسحاب من لبنان. كان على “حزب الله” أن يخرج إلى معادلة جديدة بفرض وصاية بديلة لكي يحمي نفسه من القرار 1559. أتت انتخابات 2005 بأكثرية من 14 آذار. تشكلت حكومة برئاسة الرئيس فؤاد السنيورة. بقي لحود في قصر بعبدا ولكنه لم يمنع تشكيل الحكومة التي لا يملك القرار فيها. بدأ “حزب الله” خطة الإنقلاب على نتائج الإنتخابات بحيث منع التغيير بالطرق الديموقراطية. من تحالفه مع العماد ميشال عون إلى تطويق السراي الحكومي وقطع الطرقات إلى حرب تموز 2006 إلى غزوة 7 أيار 2008 إلى انتخابات 2009 التي أتت بأكثرية من 14 آذار إلى القمصان السود. في كل هذه المراحل كانت عمليات الإغتيال التي تستهدف قيادات 14 آذار مستمرّة.
كان من الواضح أن “حزب الله” لا يمكن أن يسمح بأي تغيير ديموقراطي يعتبر أنه يشكل انقلاباً عليه. فهل سيقبل بما يمكن أن يحصل في انتخابات أيار 2022؟
تكرار التجربة ممنوع؟
إذا كان الحزب، بالتحالف مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الذي رعى وصوله إلى قصر بعبدا في العام 2016، وبفعل التحالفات السياسية التي كان الرئيس سعد الحريري طرفاً فيها إلى جانب رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، قد استطاع أن يؤمّن أكثرية نيابية في انتخابات أيار 2018 فإنّه يخشى اليوم ألا تكون انتخابات 2022 في مصلحته. بحسب الإستطلاعات فإنّ هذه الأكثرية ستنتهي حتماً لتحلّ محلّها أكثرية جديدة غير موالية لـ”حزب الله” ولخطّ الممانعة وسيكون الخاسر الأكبر فيها التيّار الوطني الحر. ولذلك يعتبر الحزب أن هذه الإنتخابات استكمال لانتخابات 2005 ولا يستطيع أن يتحمل نتائجها. فكيف سيعمل لمنعها أو لتعديل النتائج؟
في العام 2005 كانت أنظار العالم مشدودة إلى لبنان لترافق عملية التغيير. اليوم بعد 17 عاماً تَنشدّ أنظار العالم إلى لبنان مرّة جديدة. ثمّة انهيار يحصل بسبب تطويع الدولة لمصلحة محور الممانعة. هذا المحور يعتقد أنه حقق انتصارات على مستوى المنطقة ولا يمكن أن يخسر في لبنان. لذلك فقد يمنع هذه الإنتخابات بالقوّة لأنّها ستكون في أساس انتخاب رئيس جديد للجمهورية. منع الإنتخابات يخلق مخاطر كبيرة. من الممكن أن يصدر قرار جديد عن مجلس الأمن يحاكي القرار 1559 ويعدّل القرار 1701 بحيث يطوّر عمل القوات الدولية في الجنوب ويضع لبنان كله تحت سلطة مجلس الأمن من أجل استعادة سيادته الكاملة ومنعه من الإنهيار، هذا إذا لم يحصل الإنهيار قبل تلك الإنتخابات المنتظرة. بالإضافة إلى أن مثل هذا الإنهيار قد يكون سبباً وجيهاً من أجل عقد مؤتمر دولي لإنقاذ لبنان. التحدّي التالي الذي سيواجهه لبنان هو انتخاب رئيس جديد للجمهورية بعد الإنتخابات النيابية، إذا حصلت تلك الإنتخابات. وإذا استمر الوضع متدهوراً فلا شيء يمنع “حزب الله” وحلفاءه من إقفال مجلس النواب إذا لم يحصلوا على الأكثرية، بحجّة نصاب الثلثين، من أجل الحؤول دون انتخاب رئيس جديد لا يخضع لقرار الحزب ولا يسلّمه قرار الدولة. لذلك تبقى انتخابات أيار 2022 محطة عبور لا نهاية طريق.
ثمّة سيناريوات مطروحة اليوم لكي يتلافى “حزب الله” والعهد مأزق الإنتخابات النيابية والرئاسية. هناك من بدأ يطرح احتمال تعديل الدستور كما حصل في العام 1976 عندما تمّ انتخاب الرئيس الياس سركيس قبل ستة اشهر من انتهاء ولاية الرئيس سليمان فرنجية. هذا يعني أن يتم انتخاب خلف عون قبل ايار 2022. ولكن هذا الأمر يحتاج إلى تعديل الدستور وإلى أكثرية الثلثين وهي غير مؤمّنة بالتركيبة الحالية للمجلس وعلى رغم استقالة النواب الثمانية بطريقة فولكلورية غير مدروسة.
إذا كان من شبه المستحيل أن يُنتخب الرئيس بهذه الطريقة وإذا كان من غير الممكن أيضاً منع حصول الإنتخابات في موعدها فهل يمكن التحكم بنتائج هذه الإنتخابات بالقوة؟ هل يمكن أن يتكرر ما حصل في 14 شباط مع رفيق الحريري؟ ومن يمكن أن يكون رفيق الحريري رقم 2؟