تنتهي ولاية البرلمان في ايار 2022. قبل شهرين منها، يقتضي اكتمال عقد البرلمان الخلف. حتى ذلك الوقت تتبقى عشرة اشهر كي تعدّ الطبقة السياسية نفسها لخوض الاستحقاق الاكثر ضراوة. لا اسلحة فيه ابداً: لا مال، لا قضية، لا شهداء… بل السمعة الاسوأ والوجه الابشع
ليست مصادفة، بعد معاندة سنة ونصف سنة من وضع العراقيل في طريقه وفقدانه الآن جدواه الفعلية، اقرار اقتراح قانون الكابيتال كونترول في لجنة المال والموازنة، وقريباً في الهيئة العامة لمجلس النواب، بالتزامن مع اعتزام مصرف لبنان تسديد جزء من ودائع اللبنانيين المحتجزة في المصارف. كان هذا شرط ذاك قبل ان يمسيا توأمين في نص قانوني. ليست مصادفة ايضاً اقتصار اجراء مصرف لبنان على سنة واحدة. وليست مصادفة، أيضاً وأيضاً، توقيت الخطوتين مع اقتراب موعد الانتخابات النيابية المقررة ما بين آذار ونيسان 2022، ما لم يُبكّر موعدها قبل ذلك. هي مهلة السنة او اقل المتبقية قبل الوصول الى استحقاق يبدأ التحضير له.
ليس مثار غرابة ان يتقدم تواطؤ الطبقة السياسية وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة الى حد يجعلهما تحت شبهة افتعال اكبر رشوة تخرج من عقول اشرار. الصائب ان يقال اوسع عملية احتيال تشمل مجتمعاً برمّته.
أبسط ما يمكن ان يُقال في ما ينتظر الانتخابات النيابية المقبلة، انها ستشهد مجموعة خيارات لم تختبرها من قبل:
1 – لأنها العارفة تمام المعرفة ان من المتعذر عليها الاقدام على ما تفضّله وهو تمديد ولاية البرلمان الحالي بشتى الذرائع، وهي تحت اعين المجتمع الدولي ومراقبته وتلويحه بعقوبات، تصبح الطبقة السياسية الآن اكثر من وقت مضى في حاجة ماسة الى انتخابات نيابية تدحض كل ما تعدّه ادعاءات فقدانها شرعية وجودها في السلطة، بدءاً من مجلس النواب. وهو السلطة الام التي تنبثق منه السلطات الدستورية الاخرى، على صورته. وحده نقض الطعن في شرعية مجلس النواب، من خلال انتخابات عامة، يعيد تأكيد بقاء الطبقة نفسها في مكانها. لذا تتطلب خوض الانتخابات الجديدة على طريقتها من اجل تكريس بقائها وتقديم دليل اضافي على ان لا بديل منها، بما في ذلك وجوه المجتمع المدني المنقسم على نفسه، المشتت الآراء والاهداف والانتماءات، المتعطش الى سلطة ما كيفما كان.
لا تزال الحجة ذاتها المساقة منذ عام 2005، وهي ان الطبقة السياسية الحالية وحدها القادرة على ضمان استقرار الداخل، تبعاً لموازين القوى القائمة بشقيها السنّي والشيعي. من دون اي منهما ينهار الاستقرار. لكن شرط بقائه ان يحتفظ كلٌ بفائق القوة بين يديه: الثنائي الشيعي بسلاحه، وتيار المستقبل بوجوده الحتمي داخل الحكم.
2 – لا ريب في ان استحقاق 2022 سيشهد الانتخابات الابخس سعراً والاقل كلفة. سيحضره الناخبون الافقر في تاريخ لبنان، والمرشحون الاكثر ثراء. ما لا تسلّم به الطبقة السياسية سوى في سرّها، ان البلاد – على مرّ تاريخها – لم يسبق ان عرفت نظيراً لها كمثلها أُهِين وشُهِّر به ونُبِذَ وتعرّض للبهدلة والتشهير ولاحقه الفساد ونهب المال العام وافلاس الدولة، من غير ان يرف له جفن او يخجل حتى.
ما سيشهده استحقاق 2022، ان الناخبين سيموّلونه بودائعهم المحتجزة في المصارف من خلال التسليم برشوة منحهم جزءاً من مدخراتهم لسنة، تنتهي غداة اقفال صناديق الاقتراع.
تتوقع الطبقة السياسية من انتخابات 2022 اعادتها ودحض فقدانها شرعية وجودها في السلطة
3 – لا غضاضة في القول ان القليل، القليل المهم، هو المتوقع – لا المفترض – ان يتغير في الانتخابات المقبلة، لا الكثير، الكثير المهم. ليس سرّاً ايضاً أن الطوائف اللبنانية تذهب الى الاقتراع بأمزجة متباينة وولاءات متفاوتة ومصالح متشابهة وأحياناً متناقضة، يلعب المال دوراً جوهرياً وحاسماً لدى بعضها، ودوراً متوسط الاهمية لدى أخرى، وينعدم الى حد كبير عند الطراز الثالث من الطوائف.
ليس عجباً ملاحظة الناخبين الشيعة لا يشترطون المال للذهاب الى التصويت للثنائي الشيعي. ما يجمعهم بالرئيس نبيه برّي رمز الرجل بما يمثّله وحركته، مقدار ما يجمعهم بحزب الله فكرة المقاومة وضمانها الممثل في سلاحها. قضيتان كافيتان لأن لا يكون المال عصب الاقتراع.
الامر نفسه لدى الدروز عندما يقترعون لوليد جنبلاط ويمنحونه غالبية مقاعد الطائفة إن لم يكن كلها، لأن المهمة الوحيدة المنوطة بتاريخ المختارة ان يحميها، كي يقودها الى الحرب كما الى السلم في سبيل ذلك. حينما يقرر المواجهة والصدام في معركة قد تكون رابحة، مقدار ما تكون مرشحة للهزيمة. لكن ايضاً عندما يحني الرأس ويسلّم بالوقائع. يصوّت الدروز لجنبلاط من اجل أمن كيانهم وسلامة وجودهم ووجوده هو على رأسهم ومن اجل تاريخ البيت اولاً واخيراً، لا لنواب يعرفون انهم ليسوا اكثر من حجارة يتنقل بها الزعيم الدرزي على رقعة طائفته. طبعاً لم يكن ذلك معيارا الخيار والاختيار لدى والده الراحل كمال جنبلاط.
اما المسيحيون، فيذهبون الى الانتخابات النيابية – من غير ان تخلو طموحاتهم من متمولين كبار في لوائحهم – من اجل مواصلة اقتتالهم في صناديق الاقتراع. لا يعنيهم منها سوى النكايات والعدمية، واصرار واحدهم على الغاء الآخر او اضعافه بشتى الوسائل، ليس دائماً ولا حتماً المال افضلها. ما اعتادوا عليه التخوين والتشهير وتقليب الصفحات وتبادل اللعنات ونبش الماضي والقبور، كي يستأثر فريق – اياً يكن – بالحصة التي تحمله على الاعتداد بأنه ممثل المسيحيين. ما يحصل ليس ابن الحاضر، بل هو صورة متناقلة في التاريخ بدأت عام 1936 بانتخابات رئاسة الجمهورية، ولم تتوقف مذذاك.
وحدهم السنّة، ويكاد يكونون وحدهم فعلاً، يقاربون الانتخابات النيابية بالمال. لم ينجرفوا الى هذه الثقافة في حقبة ما قبل الحرب، وقد عرفت انفاق مال على حملات الزعماء الكبار كالرؤساء سامي الصلح وصائب سلام ورشيد كرامي وعبدالله اليافي. مذ دخل الرئيس رفيق الحريري في الحياة السياسية اللبنانية اليومية مباشرة عام 1992، بدعمه مرشحين لم تعد اسماؤهم سراً مكتوماً تحضيراً لوصوله الى السرايا على اثرها، مروراً بالمرة الاولى التي ترشح فيها عام 1996، ثم المواجهة الذروة عام 2000 ضد لائحة رئيس الحكومة سليم الحص، وحده المال كان برنامج الحملة الانتخابية. في آخر انتخابات خاضها، لم تتبقَ سيارة اجرة لم يحجزها، ولا دكان لم يتحوّل الى مكتب انتخابي بمبلغ خيالي ليوم واحد فقط، وصل احياناً الى الف دولار، الى حد لم تُخفِ لائحة الحص حينذاك انها فقدت كل امكانات ادارة الحملة الانتخابية. رغم انه اكتفى في دورتي 1996 و2000 بخوض انتخابات بيروت وحدها، تحت وطأة ضغوط سورية عليه لمنع تمدّده الى المحافظات الاخرى، تولى الحريري الاب تمويل الحملات الانتخابية في الضنية وطرابلس وعكار والبقاعين الاوسط والغربي، اضف حصته السنّية في لائحة جنبلاط. بمسمّيات شتى، اقرن الرئيس الراحل قوة المال بصورة الزعامة السياسية بدءاً من داخل الطائفة نفسها، الموحّدة من حوله وحده، لا غريم له فيها. ذلك مبرّر ما قيل بعد اغتياله انها تيتّمت: فقدت الاب الذي هو المعيل ايضاً.
مغزى ما قد ينتظر الرئيس المكلف سعد الحريري، انه في حاجة فعلية الى افكار خلاقة تكسر التقليد الذي اورثه اياه والده الراحل، وثابر عليه في انتخابات 2005 و2009، وهو اقناع ناخبيه الذين اعتادوا قبل الحرب بالمجان التصويت للبيوت التاريخية، بالذهاب الى اقلام الاقتراع ثم الخروج منها خاويي الجيوب.