الرقم أعلاه يعود لآية قرآنية احتلت، وعن جدارة، مكاناً واسعاً من الجدال الديني في الاسلام، قديماً وحديثاً. الآية 256 من «سورة البقرة» ومطلعها «لا إكراه في الدين».
أربع كلمات فتحت نقاشاً بين المفسرين وعلماء الدين بدأ غداة الفتوحات مع ابناء الشعوب المغلوبة ولم ينتهِ حتى اليوم، ويقيم عدد لا يستهان به من الدارسين، من المسلمين والعرب وغيرهم، موقفهم ليس فقط من الاسلام، بل من مستقبل المنطقة ودور الدين في سياستها، بتفسير هذه الكلمات الاربع. ولا يكاد فقيه يستحق هذا اللقب، من القدماء او المعاصرين، إلا وأدلى بدلوه في شأن هذه الآية. ولا عجب. فالتفاسير والسياقات التي وضعت فيها تكفي لملء مجلدات، تلائم مضامينها كل الميول، من الأكثر تشدداً وتزمتاً، الى الأرحب والقابل بحرفيتها ومعناها المباشر.
أُدخل مطلع هذه الآية «لا إكراه في الدين» في آليات معقدة للحد من إطلاقها، فقيل انها متعلقة بحادثة معينة وقعت في المدينة على زمن النبوة. ثم اعتبرها عدد من كبار المفسرين من آيات الموادعة التي نُسخت بآية السيف (سورة «التوبة»: 5)، وثارت حولها تكهنات أهي مدنية او مكية وهل تشمل العرب المسلمين وحدهم (بعد حمل عرب الجزيرة على الاسلام) او تشمل كذلك اهل الكتاب ومن يدخل في بابهم (المجوس والصابئة).
كثرة الآراء التي قيلت في الكلمات القرآنية الاربع لا تلغي ان من اهمها ما اورده فخر الدين الرازي في «مفتاح الغيب» نقلاً عن بعض المعتزلة ان هذا الجزء من الآية يحض المسلمين على قبول الكافرين بينهم لأن الدنيا دار الابتلاء ويمنع قسرهم على الإسلام، وهو ما ذهب اليه ابن الجوزي كذلك. المفارقة ان الأكثر صراحة في القبول بإطلاق الآية هم المتصوفة، على غرار ابن عربي والجيلاني، من جهة، ومؤسس واحدة من أعنف مدارس الاسلام السياسي الجهادي، سيد قطب في «في ظلال القرآن»، من جهة ثانية. وفيما ينحو الاولون نحو ارجاع الايمان الى نور هادي ينبع من القلب، يسعى قطب الى ايجاد البرهان العقلي على ان الاسلام بصفته الحقيقة المطلقة والنظام الافضل، سيجذب كل ذي بصيرة ولن يكون في حاجة الى الارغام والقسر.
التفسير «التوفيقي» اذا جاز التعبير، يستند الى حق الشعوب التي فتحت اراضيها في الاختيار بين الجزية وبين الإسلام. وهو ما عبّر عنه مفسرون مثل الفيروزأبادي والماوردي الذي قال ان لا اكراه في الدين اذا بُذلت الجزية. وسرعان ما لاحظ مجادلو «أهل الذمة» نقطة الضعف هذه فسألوا: كيف يجتمع انعدام الاكراه ودفع الجزية؟ اليست الجزية ذاتها نوع من الاكراه؟ ينبّه السؤال هذا الى هوة سحيقة بين مستويين من الوعي: الامبراطوري العربي – المسلم المنتصر في مقابل الوعي المغلوب الباحث عن موقعه في عالم لم يعد يعترف به. ولعل الاشارة الى الثورات التي شهدتها مصر على فترات طويلة امتدت حتى عهد الخليفة المأمون، كانت تستند الى الشعور بالاجحاف، او قل «بالإكراه» المالي خصوصاً، الذي حضت الآية على منعه.
يرفد هذه الآية شبيهات لها مثل قوله «فمن شاء فليؤمن وشاء فليكفر» (سورة «الكهف»: 29) التي تدور في الفلك الجدالي ذاته من النسخ والتفسيرات المقيدة.
هذه الاسئلة وغيرها كثير، تناولها الفقهاء المعاصرون من دون رغبة في تحدي ائمة التفسير القدماء. ما نشهده في عالم اليوم ينبغي ان يحمل معاصرينا على اعادة نظر عميقة في موقع هذه الآية وعدم الركون الى القول بنسخها.