من بين كل الانتخابات التي جرت في المنطقة خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة (لبنان والعراق وتركيا) كانت الانتخابات التركية الأبرز لجهة الدلالات التي تركتها داخل تركيا وإقليمياً ودولياً.
الصحافيون ومراقبو هذه الانتخابات الذين احتشدوا بالآلاف في اسطنبول خصوصاً وفي ازمير وديار بكر وأنقرة لمتابعة هذا الحدث، خرجوا جميعاً باقتناع أنّ تركيا 25 حزيران 2018 هي غيرها ما قبله.
لقد تميّز مشهد وقائع يوم الانتخابات التركية أمس الأول بالحذر الشديد الذي ساده. فحتى ما قبل البدء بفرز العيّنات الأوسع من صناديق الاقتراع، لم تكن أيُّ جهة تركية تملك إجابة يقينية عن سؤال مَن سيفوز: أردوغان أم خصومه؟ الفكرة الأكثر رواجاً التي سادت حتى قبل ساعة من ظهور نتائج الانتخابات مساء الأحد الماضي، كانت تفيد عن إمكانية أن لا يحصل أردوغان على النصف زائداً واحداً من الناخبين التي تخوّله الفوز بمنصب رئاسة الجمهورية، ما يُفضي لذهابه الى جولة انتخابات رئاسية ثانية في مواجهة منافسه الشرس محرم أنجه.
في كل الانتخابات السابقة التي جرت في ظلّ سطوع نجم أردوغان وحزبه «العدالة والتنمية» منذ عام 2007، كان حتى خصومه لا يجادلون بحتميّة فوزه. ولكن في انتخابات هذه السنة كان مناصرو حزب «العدالة والتنمية» حتى غير واثقين من حتميّة إنتصاره.
لقد كتب مناصرو «العدالة والتنمية» خلال الحملة الانتخابية على صفحات التواصل الاجتماعي ما يشبه المناشدة للشعب التركي: «لا تتركوا السلطان عبد الحميد الثاني وحيداً». ومرّت الساعات الثلاث الأولى التي تلت إقفال صناديق الاقتراع مساء الأحد الماضي ثقيلة على مناصري أردوغان. فهؤلاء كانوا اعتادوا في الانتخابات الثلاثة الاخيرة الماضية، أن يخرجوا محتفلين بالنصر بمجرد صدور عيّنة الـ20 في المئة من فرز الأصوات. أما هذه المرة فإنهم لم يتجرّأوا على الخروج الى الاحتفال بالنصر إلّا بعد أن ظهرت نتائج عيّنة الـ60 في المئة من فرز مجمل الاصوات، والتي أكّدت تقدّم أردوغان وتحالفه.
ونظرياً نجح أردوغان في اجتياز كل الاحتمالات الصعبة التي شكلت تحدّيات له في هذه الانتخابات؛ من جهة نال أكثر من 50 في المئة زائداً واحداً من اصوات المقترعين لرئاسة الجمهورية (نال 53 في المئة) ما أهّله للفوز بالرئاسة من الجولة الاولى. ومن جهة ثانية نال «تحالف الشعب» الذي يضمّ حزبه وحزب «الحركة القومية» 343 مقعداً من أصل 600 مقعد في البرلمان، أي الغالبية. غير أنه في مقابل هذه القراءة لنتيجة الانتخابات النيابية تشيع قراءة مغايرة تفيد أنّ حزب أردوغان فقد الغالبية النيابية، كون عدد المقاعد التي حصدها هذا الحزب منفرداً، ومن دون «الحركة القومية» حليفه الانتخابي وليس العقائدي، هو 297 مقعداً، أي ما دون عتبة الغالبية، وبالتالي فإنّ رئاسة أردوغان مرشّحة لأن تواجه لعبة تجاذب وشدّ حبال مع البرلمان، تدخل تركيا في أزمة عدم تجانس بين مؤسسات الحكم.
وثمّة إخفاق آخر في الانتخابات البرلمانية اصاب نصر أردوغان الرئاسي الساحق، ومفاده نجاح «حزب الشعوب الديموقراطي» المؤيّد للأكراد، في تجاوز عتبة الفوز (10 في المئة)، ما أهّله لأن يصبح أحد أحزاب البرلمان ( نال 65 مقعداً).
وخلاصة الصورة التي أفضت اليها انتخابات الاحد الماضي، تقود الى إيراد مجموعة استنتاجات ترقى الى منزلة الحقائق، وكلها تُعتبر غاية في الأهمية، نظراً الى دلالاتها المهمة على مستوى مستقبل تركيا أو على مستوى «دور تركيا الإقليمي الجديد». غير أنّ أخطر حقيقة بينها تتمثل بالتداعيات التي ستنتج عن حقيقة أنّ تركيا دخلت مع بزوغ شمس 25 حزيران «حقبة دستور عام 2017» الذي اقترحه أردوغان؛ والذي بموجبه انتقل نظام الحكم في تركيا من النظام البرلماني الى النظام الرئاسي الذي ألغى منصبَ رئيس الحكومة وأحال كل السلطة التنفيذية الى رئاسة الجمهورية، وبموجبه أيضاً أصبح المصرفُ المركزي التركي الذي تمتع سابقاً بالاستقلالية، مجرّد صدى لطريقة تفكير الرئيس التركي. معارضو حزب «العدالة والتنمية» يصفون هذه الحقبة الجديدة بأنها إيذانٌ ببدء نظام حكم الديكتاتور، أو «الرئيس بصلاحيات سلطان»؛ أما أردوغان فأعتبرها في «خطاب الشرفة» ( شرفة المقرّ الرئيسي لحزب «العدالة والتنمية») الذي ألقاه لمناسبة إعلانه نصره في الانتخابات، أنها بداية عهد «الثورة الديموقراطية».
وتثير هذه الجزئية سؤالاً أساسياً في تركيا، وهو عن الطريقة التي سيدير بها أردوغان صلاحياته الواسعة وفق الدستور الجديد، وذلك ضمن الإنقسام الداخلي حوله: هل سيستخدم هذه الصلاحيات بنحو إقصائي للآخرين؟ إم أنه سيراعي في ممارسته لها التمرحل والبراغماتية، وبالتالي عدم تحدّي وجود طيف واسع من المعارضين للدستور الجديد؛ وهؤلاء على رغم أنهم لم يصلوا الى عتبة الغالبية في الانتخابات، إلّا أنهم يمثلون 30 في المئة من الشارع التركي ونحو 200 عضو من مجمل البرلمان الجديد.
وهنا يُتوقع سيناريوهان لا ثالث لهما، سيكون لأحدهما نصيب التطبيق خلال المرحلة الجديدة في تركيا:
يفترض السيناريو الأول أن يمارس أردوغان نهجاً استيعابياً للمعارضة، فيقدم لها بعض التنازلات من قبيل رفع حالة الطوارئ وإشراك البرلمان في القرارات الكبرى، الخ؛ والسيناريو الثاني يتمثل في أن يبدي أردوغان نهجاً متفرِّداً في الحكم، وذلك تحت عنواني: العمل بالدستور الجديد، وحاجة تركيا الى قرارات حاسمة تنقذ تعثر اقتصادها. وهذا النهج سيقود الى مواجهة داخلية بين «شارع المعارضة» العريض من جهة، وسلطات «صلاحيات الرئيس» من جهة ثانية.
وفي اطار هذا النزاع سيتحوّل البرلمان «معقلاً ونادياً للمعارضين» بعد أن حوّله دستور 2017 برلماناً ليست له صلاحية دور مساءلة السلطة التنفيذية التي أصبحت رئاسية. وبحسب نخب سياسية تركية، فإنّ جوهر الخشية هنا، تكمن في أنّ هذا الوضع سيجعل مجمل «التجربة الديموقراطية التركية» نفسها تدخل في «أزمة «، تضاف الى ازمات البلد الأخرى. وسيصبح امام أردوغان خيار واحد للخروج من هذه الازمة، وهو الدعوة مجدداً الى انتخابات نيابية مبكرة بغية حسم النزاع على الغالبية في داخله.