كل مطالب او حقوق الحراك الشعبي تبدأ بإصلاح القضاء عن طريق تأمين استقلاله عن السياسة، من هنا فإن قانون استقلال القضاء، إذا صدقت الطبقة الحاكمة في دعوتها المجلس النيابي لإقرار قوانين «ثورية»، فإن اول قانون يجب ان يُطرح هو قانون «استقلال القضاء».
حين نُقِل القاضي شكري صادر ثم استقال كان ذلك يلزم القضاة والمحامين بوقفة لاسيما وأن بياناً عن مجلس القضاء الأعلى صدر قبل عشر سنوات فيه نداء وصرخة تقول: «كفى استخدام القضاء «مطيّة» للسياسة..». والحكاية بدأت من زمان ولكن لا حياة لمن تنادي.
حين حوكم أنطون سعاده خلال ساعتين صدر بعدها حكم عليه الاعدام، سقط وقتها القضاء في التسييس ثم في الفساد، وبقي يتخبط. وفي كل مرة كنا نقول أنه ليس «تحته تحت» نعود ونكتشف أنّ تحته «تحت» آخر.
وخير شهادة جاءت حين شهد شاهد من أهله في زمن الوصاية، فحين لم يمدد لنصري لحود رئيساً لمجلس القضاء الأعلى أعلن قاضي القضاة في مؤتمر صحفي أن القضاء مسيس وفاسد!!
تسييس القضاء كان صارخاً في الحكم الذي صدر على الرئيس ميشال عون حين كان عماداً زمن الوصاية «برزمة» من الجنايات المنسوبة له وحين تمت الصفقة السياسية، اجتمعت المحكمة بالرغم من ان عون رفض حتى أن يقدم أي استدعاء أو طلب أو ورقة، ومع ذلك اجتمعت المحكمة وبرأت ساحته ورجعت عن أحكامها…
والشيء نفسه حصل مع الرئيس فؤاد السنيورة، في قضية محرقة المرفأ التي حصل السنيورة على موافقة مجلس النواب والوزراء ثم حين جاء وقت السياسة حركوا التحقيق لتضحك السفارة الإيطالية من سخفهم. فجأة اكتسح رفيق الحريري الانتخابات، وبدون أن يقدم فؤاد السنيورة أي استدعاء أو طلب او اي ورقة! فجأة اجتمعت الهيئة الاتهامية وعادت عن كل اتهاماتها!!!
ليست المشكلة مشكلة قضاة، بل المشكلة في حماية القضاة العمالقة الأوادم. فصف طويل من القضاة العمالقة الذين هم اطهر من زيت المعابد كانوا القدوة والمثال في النزاهة والجرأة والتمرد على تجاوزات السلطة السياسية، ليس أوله اميل أبو خير واميل تيان وعاطف النقيب ولا آخره عبد الباسط الغندور الذي دخلت القوة السورية عقر داره، والآن جاء شكري صادر ليتوّج على عرش الطهارة والجرأة.
اذا فسد الملح فماذا يملح؟ واذا فسد القضاء فكيف نحمي كرامات الناس وشرفهم وأموالهم وأعراضهم؟
تسييس القضاء هو جزء من فساد الدولة التي حاول فؤاد شهاب وحده بناءها وتحصينها فلقي الويلات التي نعرفها.
أين نقابة المحامين؟
نقابة المحامين خاضت معركة قانون الزواج المدني في الماضي في اضراب استمر اكثر من سنة. ألا تستحق معركة حماية استقلال القضاء عن السياسة وعن الفساد أكثر مما أعطته نقابة المحامين أيام فيليب سعاده في معركة الزواج المدني؟ ألا يستحق نقل القاضي شكري صادر وقفة قضائية طويلة ووقفة من نقابة المحامين؟
يضاف الى ذلك ان مشكلة تسييس القضاء خرجت حتى من حدود لبنان فقد جاء في تقرير لجنة حقوق الانسان في الأمم المتحدة سنة 1997، جاء فيه عن القضاء اللبناني ما حرفيته:
«وبنوع خاص، عبرت اللجنة عن قلقها حول استقلال وحياد القضاء، وقد لحظت البعثة انها اقرت اجراءات تعيين القضاة وبنوع خاص اعضاء مجلس القضاء الأعلى هي بعيدة جداً عن أن تكون مرضية. وتخشى ايضاً اللجنة ان الدولة، في ظروف عدة، لا توفر للمواطنين الحلول واجراءات الاستئناف المناسبة لتسوية مشاكلهم. فعليه، توصي اللجنة ان تعيد الدولة النظر وبصورة عاجلة وملحة بالاجراءات التي تحكم طريقة تعيين القضاة مع الأخذ بعين الاعتبار تأمين استقلاليتهم التامة».
ولا بد هنا من وقفة مع بيان مجلس القضاء الأعلى الخطير الذي صدر منذ سنوات وقد صار من الواجب العودة اليه بعد نقل القاضي شكري صادر لأنه بيان كان دعوة صارخة لإصلاح القضاء ولكن لا حياة لمن تنادي.
يقول بيان مجلس القضاء الأعلى الذي صدر من عشر سنوات:
«يرحب المجلس بأي طرح جدي وإيجابي وعلمي يهدف الى إعادة النظر في بعض أسس النظام القضائي، وذلك في سبيل تحصين السلطة القضائية وبهدف مواكبة التوجهات الإصلاحية التي اثبتت جدواها ونجاحها في بعض الدول الديمقراطية المتقدمة. وهو ينوي، لأجل ذلك، تحريك المشاريع المعدة والتقدم بالاقتراحات المناسبة الى السلطات المختصة تلبية لهذا المطلب».
كما يجب الوقوف عند بيان مجلس القضاء الأعلى الذي صدر منذ أيام ويطالب بأن تكون التشكيلات القضائية من سلطة مجلس القضاء الأعلى وحده! وكذلك يجب الإصغاء الى بيانات نادي القضاة الإصلاحية التي تنزل برداً وسلاماً على قلوب اللبنانيين لأن نوراً اصلاحياً ينبعث من تجمع قضاة طاهرين أوادم يسعون لإصلاح القضاء بعد التدني الذي وصل اليه بالتسييس الذي استحكم به استحكاماً كاملاً هذه الأيام منذ 1943.
اول قانون يجب ان يبحثه المجلس النيابي اذا اجتمع هو قانون اصلاح واستقلال القضاء، لأنه اذا قارنّا دستورنا وقوانيننا بدساتير الدول العريقة في الديمقراطية والحرية، نرى الأهوال.
نلاحظ انه في حين تنص دساتير الدول الديموقراطية على حصانات القضاء وفصل السلطات لكي تبقى الضمانات محصنة من رياح السياسة، فانّ السياسة في لبنان تلعب دورها في ازالة استقلال القضاء! كما ان حصانة القضاء بالاستقلالية واردة نظرياً في نصوص قانونية وليس في نصوص دستورية كما هو وضع كل الدول التي حصنت القضاء، فضلاً عن أن النصوص القانونية ذاتها لا تتضمن ولا تتبنى أي مبدأ من مبادىء تحصين استقلاق القضاء وفصل السلطات.
لماذا؟
للاجابة عن هذا السؤال نعود اولاً الى الدستور اللبناني الذي اكتفى في المادة 20 منه بالقول:
«السلطة القضائية تتولاها المحاكم على اختلاف درجاتها واختصاصاتها ضمن نظام ينص على القانون ويحفظ بموجبه للقضاة والمتقاضين الضمانات اللازمة.
اما شروط الضمانة القضائية وحدودها فيعينها القانون والقضاة مستقلون في اجراء وظيفتهم وتصدر القرارات والاحكام من قبل المحاكم وتنفذ باسم الشعب اللبناني».
وهذا النص ليس فيه اي ضمانة او حصانة محددة لاستقلال القضاء عن السياسة ولا عن السلطة التنفيذية اسوة بدساتير العالم الديموقراطي، وليس فيه اي نص عن استقلال مجلس القضاء الاعلى وصلاحياته الذي نصت عليه دساتير العالم، ولم تترك للقوانين ان تفصل صلاحياته وتؤمن استقلاله كما لا يتضمن هذا النص مبدأ «عدم قابلية القاضي للعزل او للنقل» ولا مبدأ الترقية الحتمية بمعزل عن السياسة ولا مبدأ استقلالية التعيين بمعزل عن السياسة.
فما هي الضمانات التي تحفظ للقضاء استقلاله وللسلطة القضائية حصاناتها ولاسيما في القوانين المقارنة ودساتير الدول.
الديمقراطية التي ترفرف عليها الحرية هي دولة قانون ومؤسسات، فاستقلال القضاء هو الاساس في دستورها فأين نحن من ذلك؟
اولاً- في فصل السلطات:
فكرة فصل السلطات سلّط عليها الضوء مونتسكيو1 معتبراً انها الضمانة للحرية في الدولة والمجتمع اذ قال: «عندما تجتمع في شخص واحد او في هيئة واحدة من الحكام، السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، لن يعود هناك ثمة حرية».
ويقول مونتسكيو: «لا بد لكل انسان يتمتع بسلطة من ان يميل الى الاساءة في استعمالها، الى ان يجد حدوداً امامه..».. وقد تبوأت هذه النظرية منزلة المبدأ المقدس في دساتير الدول الديمقراطية حتى اصبحت جزءاً من حقوق الانسان.
ولكن ما هو وضع السلطة القضائية في الدساتير الديمقراطية وما هي الضمانات لاستقلال السلطة القضائية؟
ثانياً- الضمانات لحماية استقلال القضاء2:
استقلال القضاء يبقى حبراً على ورق اذا لم ترد نصوص دستورية وليس قانونية تعطي ضمانات لاستقلال القضاء ولا سيما:
1- في التعيين:
اذا كان تعيين القضاة يتم بواسطة السلطة الاجرائية اي بواسطة السياسة فلا يكون لاستقلال القضاء اي معنى. هل مجلس القضاء الأعلى هو فعلاً سلطة مستقلة طالما ان ثمانية من أعضائه يُعيّنون من السلطة التنفيذية؟؟؟ لهذا اوجدت الدساتير، وليس القوانين، كما في لبنان اوجبت في الدول الديمقراطية عدة طرق لضمان استقلال القضاة عند تعيينهم، بحيث يتم اختيار القضاة بالانتخاب كما في الولايات المتحدة وسويسرا، او بالمباراة التي تفتح فيها ابواب معهد القضاء وتصبح كفاءة المرشح هي باب للوصول الى القضاء بدون تدخل السلطة الاجرائية السياسية، كما في فرنسا ويكون مجلس القضاء الاعلى هو الرقيب على ذلك.
2- عدم قابلية القاضي للعزل او النقل:
نصت اكثر الدساتير في الدول الديمقراطية على هذا المبدأ، لاسيما دستور الجمهورية الفرنسية الخامسة الذي نص في المادة 64 الفقرة الثالثة على ان القضاة الجالسين غير قابلين للعزل “Les magistrats du siège sont inamovible” وبحكم كون هذا المبدأ وارداً في الدستور فان القوانين اذا خالفته تبطل. ولا يعود بإمكان المشرع ان يضع نصوصاً تجيز عزل القاضي وهذا المبدأ ورد في كل الدساتير الفرنسية المتعاقبة باستثناء دستور 1875 ولكن قانوناً صدر سنة 1883 تضمن هذه القاعدة. والفقه الدستوري يعتبر ان هذا المبدأ يشمل ليس عزل القاضي بل نقله ولو حتى الى مركز اعلى الا بموافقته، وقد حرص القانون الدستوري الفرنسي المتعلق بنظام القضاة على ان ينص صراحة على انه «وبالتالي فان القاضي الجالس لا يقبل بدون رضاه، وظيفة جديدة ولو كان فيها ترقيةً له».
3- ضمانة الترقية:
والضمانة الثالثة المعطاة للقاضي هي في خضوعه لنظام الترقية الآلية الذي ليس للسلطة السياسية اي دور فيه. فتكون الاقدمية والفترة الزمنية التي امضاها في وظيفته هي التي تفضي حتماً الى ترقيته الى وظيفة قضائية اعلى، عدم عزل القاضي وعدم نقله تشكل الضمانات الاساسية التي تكفل له الاستقلال وهذا ما يخلو منه النظام القضائي اللبناني، ذلك يجب ان يشرف عليه ويحميه مجلس قضاء اعلى.
فما هو وضع مجلس القضاء الاعلى في الدساتير.
ثالثاً- مجلس القضاء الأعلى:
مجلس القضاء الاعلى ينظمه في لبنان قانون وليس الدستور3 وهذا القانون اصدرته السلطة الاجرائية سنة 83 بتفويض من السلطة التشريعية. وعدد اعضاء مجلس القضاء الاعلى اللبناني عشر اعضاء، خمسة معينين من السياسة وثلاثة حكميون اي بحكم وظائفهم ولكنهم يعينوا في مراكزهم من السياسة واثنان من رؤساء محاكم التمييز ينتخبهم قضاة محاكم التمييز.
ومجلس القضاء الاعلى له ارجحية على سلطة الوزير في حال تأمنت اكثرية سبعة اصوات من اعضائه للقرار المختلف عليه4.
ولكن المشرع يضيف: فيما يتعلق بالتشكيلات القضائية «لا تصبح التشكيلات نافذة الا بعد موافقة وزير العدل» 5. اي ان السياسة يجب ان توافق على التشكيلات القضائية.
ولكن يبقى ان اي قرار يحتاج الى مرسوم والمرسوم يصدره الوزير، والوزير هو سياسة ويمكنه ان لا يصدر القرار.
1- ما هي الحلول التي لجأت اليها دساتير الدول التي امنت قضاء مستقلاً يحمي المجتمع المدني ومصالح وحقوق الناس ويؤمن العدالة الصحيحة؟
1- ان حماية القضاء يجب ان ترد في نصوص الدستور كما هو وضع الدستور الفرنسي مثلاً الذي كرس فصلاً للسلطة القضائية سماه في دستور الجمهورية الخامسة «في السلطة القضائية» وفي دستور الجمهورية الرابعة سماه «في مجلس القضاء الاعلى» كما صدرت مجموعة قوانين دستورية في فرنسا واهمها التنظيم القضائي ليبقى القضاء بعيداً عن السلطة التشريعية لاسيما ان السلطة التشريعية في فرنسا صارت في كثير من سلطاتها التشريعية في يد السلطة الإجرائية.
وفي لبنان طالما كانت التشريعات المتعلقة بالقضاء تصدر بمراسيم تشريعية من السلطة الاجرائية.
2- الدستور يجب ان يحفظ ثلاث ضمانات اساسية لاستقلال القضاء:
أ- ان يكون التعيين بالمباراة بعيداً عن تدخل السياسة وتحت اشراف مجلس القضاء الاعلى وحده.
ب- ان ينص الدستور كما دساتير العالم الديموقراطي على ان القاضي غير قابل للنقل الا برضاه.
ج- ان تضمن آلية دستورية للقاضي للترقي تكون بمنأى عن تدخل السياسة وتكون باشراف مجلس القضاء الاعلى.
3- ان يتولى مجلس القضاء الاعلى السهر على حسن سير العدالة وتأمين حماية استقلال القضاة على ان يكون مجلس القضاء الاعلى مشكلاً في نص دستوري كما هو وضع الدستور الفرنسي ومؤلفاً من اعضاء:
أ- يكون ربعهم من قضاة محكمة التمييز ينتخبون من كل القضاة اللبنانيين.
ب- ربعهم من قضاة مجلس شورى الدولة ينتخبهم قضاة مجلس شورى الدولة.
ج- وربعهم من غير القضاة ومن شخصيات ثقافية ووطنية تمثل كفاءات وتيارات فكرية وثقافية هامة في المجتمع المدني اللبناني ينتخب نصفهم القضاة ونصفهم الآخر النواب.
د- الربع الاخير من القضاة السابقين المتقاعدين ينتخبهم النواب المنتخبون من الشعب وتكون للسلطة الاجرائية عدد من بينهم.
4- مجلس القضاء الاعلى هو الذي يتخذ القرارات في التعيين والترقية والتأديب حسب قواعد التعيين في المباراة والترقية الآلية والتأديب حين تدعو الحاجة ولا تكون للسياسة ولا لوزير العدل دور في المصادقة على قراراته.
هذه القواعد اعتمدتها دساتير العالم وهي التي امنت استقلال القضاء..
اما ان يبقى القضاء على حاله وتعزف في كل حين معزوفة استقلال القضاء، وفصل السلطات بينما ليس للقضاء اي حماية ولا اي ضمانة من السياسة والدستور لا يحمي ولا يحصن القضاء فالامر اخطر من ان يترك على غاربه وعلى حاله.. لأنه حتى لو عولج امر ازمة القضاء التي تطل كل ستة اشهر الا ان حماية استقلال القضاء تحتاج الى غير ذلك، الى تعديلات دستورية اساسية. من هنا يمر استقلال القضاء لينعم المجتمع المدني اللبناني بالامان وبالحق وبالعدالة.
المراجـــع:
1- روح الشرائع الصادر سنة 1748 لمونتسكيو.
2- Maurice Duverger – Institutions Politiques et Droit constitutionnel – Presses Universitaires de France P. 214 – Garanties d’avancement
3- هو قانون القضاء العدلي الصادر بمرسوم اشتراعي عن السلطة الاجرائية في 16/9/1983.
4- المادة الخامسة من قانون القضاء العدلي.
5- نفس المادة.