«الأفكار» التي يتمّ تداولها في شأن الوسائل التي يرغب «حزب الله» في أن تعتمدها الدولة و»الشعب» لمواجهة موجة العقوبات الأميركية، لا تدعو الى الاطمئنان. واذا ما تبيّن أنّ رغبات «الحزب» أوامر، سنكون في مواجهة تطورات لا نُحسد عليها.
قبل سنتين فقط، كانت عملية إصدار سندات اليوروبوند تتم بسلاسة استثنائية، وفي كل مرة، كان يُعلن في نهاية الاصدار انّ حجم الطلب على الاكتتاب فاقَ أضعاف ما هو مطلوب. وكانت المصارف تتنافس للحصول على أكبر حصة من أي إصدار، وتفرح أو تحرد وفق ما نجحت في تحصيله من حصة في الاكتتاب. في ذلك الوقت كانت أسعار الفوائد على اليوروبوند اللبناني أقل من 7 في المئة.
اليوم، يمثّل الارباك في اتخاذ قرار بإجراء إصدار يوروبوند، مؤشراً اضافياً الى النقطة التي بلغها الوضع المالي المأزوم، والذي وصل الى حدّ انّ لبنان الذي كان يتباهى دائماً بدفع أسعار فائدة أقل من الدول المُماثلة له لجهة التصنيف الائتماني، باتَ يخشى من تثبيت فرضية «بلومبرغ» لجهة دفع أعلى اسعار فائدة على سندات حكومية في العصر الحديث، تتجاوز الـ14 في المئة. وبات يخشى أيضاً أن يتعثّر الاكتتاب بسبب ضعف الطلب عليه!
كذلك، قد تواجه المصارف الاجنبية والمحلية، التي قد تُكلَّف بإدارة الاصدار، صعوبات في التسويق. وللتذكير، كانت المصارف المحلية تتبارى ايضاً في مجال الحصول على تكليف بإدارة أي إصدار لليوروبوند، في حين انّ وزارة المالية اليوم تحتاج الى حملة تحفيز، ربما، لإقناع أي مصرف محلي أو أجنبي بإدارة إصدار جديد للسندات!
هذه التطورات المعبرّة لا تحتاج الى اجتهادات وتفسيرات. البلد وصل الى مرحلة يواجه فيها صعوبة حقيقية في الاقتراض، وقد استُعيض مرحلياً عن الاقتراض المباشر من خلال اليوروبوند بالاقتراض بالواسطة عبر هندسات مالية يقوم بها مصرف لبنان.
والنتيجة واحدة في الحالتين، اللبنانيون يدفعون بين 14 و15 في المئة فوائد على دينهم الجديد بالدولار. وعلى طريقة «رضينا بالهَمّ والهَمّ ما رِضي فينا» لن تكون الهندسات المالية كافية لسد النقص في الاصدارات، وما يحاول لبنان تجنبّه مؤقتاً بانتظار أن يأتيه ما في الغيب، سيضطرّ الى مواجهته عاجلاً ام آجلاً، والأرجح قريباً.
هذا الوضع الاستثنائي، يعني انّ الوصول الى خط النهاية اقترب. ولا حاجة الى تحديد الفترة المتبقية، إذ يكفي ان يكون الكلام اليوم حول المدة التي يستطيع أن يصمد فيها الوضع المالي بعد، لكي ندرك أننا وصلنا الى حدود القعر.
في موازاة هذه المشهدية السوداوية، تبرز مشهدية أخرى لا تقل خطورة. ويمكن تلخيصها بأنّ «حزب الله» قرّر التصدّي للعقوبات الأميركية المتوقعة في المرحلة المقبلة. وما يتردّد في شأن «الخطط» التي تجري مناقشتها في هذه المواجهة، لا تبشّر بالخير. بدءاً بتوريط الدولة بشكل مباشر في المواجهة، وتشجيعها على «عَزل» أميركا من خلال وقف التعاون معها، والاتجاه الى التعاون مع دول أخرى! وصولاً الى «محاصرة» عوكر والتوابع…
هذه الافكار الخَلّاقة لا تساهم في تسريع الانهيار فحسب، بل انها تجعل مرحلة ما بعد الانهيار أصعب بكثير ممّا ستكون عليه من دون هذا الانتحار القسري. وأمامنا اليوم أكثر من نموذج لِما يمكن أن يلي الانهيار المالي.
النموذج الاول تمثّله اليونان، التي حَظيت بعد الانهيار برعاية استثنائية، ساعَدتها في تَخطّي مرحلة الشفاء في وقت مقبول، وبفعالية واضحة. اليوم، أصبحت اسعار السندات اليونانية تفوق سعرها الاسمي، وهذا مؤشّر أكيد على انّ اليونان تجاوزت الأزمة، واقتربت من مرحلة النمو والتطبيع الاقتصادي.
طبعاً، من دون أن يعني ذلك انّ اليونانيين لم يدفعوا ثمناً باهظاً للصعود من القعر، من خلال إجراءات تقشفية قاسية، من ضمنها خفض رواتب موظفي القطاع العام، بحيث انّ القدارت الشرائية تراجعت حوالى 50 في المئة.
النموذج الثاني تمثّله الارجنتين، التي تعرّضت لتجربة الانهيار في الاشهر الأخيرة. وقد حظيت هذه الدولة برعاية صندوق النقد الدولي الذي أقرّ خطة إنقاذ مالية واقتصادية، خصّص لها مبلغ 57 مليار دولار. هذه الخطة لا تزال في بدايتها، ولا يمكن الحكم على نتائجها منذ الآن، لكنّ مؤشرات المتابعة من قبل صندوق النقد توحي بأن الانقاذ سينجح، خصوصاً انّ الصندوق جاهز لزيادة حجم مبلغ الانقاذ في المرحلة المقبلة.
ولكنّ الارجنتينيين سيدفعون ايضاً من جيوبهم ثمن الانقاذ، وقد بدأت معاناتهم منذ اليوم، مع تراجع قدراتهم الشرائية بأكثر من خمسين في المئة، بسبب انخفاض سعر صرف البيزو بنسَب سريعة وكبيرة.
النموذج الثالث قائم في فنزويلا، التي وصلت الى الانهيار منذ سنوات طويلة، ولكنها لم تنجح في بدء خطة إنقاذية حتى اليوم. ووضع الفنزويليين من سيئ الى أسوأ، دولتهم تغرّد خارج منظومة المجتمع الدولي، وهي رأس حربة في «محور المقاومة». وبالتالي، لم تحصل فنزويلا على أي دعم يُذكر للصعود من القعر. وهي مستقرّة اليوم في الهاوية، شعبها جائع، محالها لبَيع المواد الغذائية خاوية، ودولتها تقاوم حتى النصر.
من يقول انّ لبنان ذاهب الى الانهيار، اذا استمر الوضع على ما هو عليه، لا يبالغ. لكن اذا قرّر «حزب الله» محاربة أميركا بأموال اللبنانيين، «نضمن» تسريع الانهيار، وإطالة أمد المكوث في القعر، على الطريقة الفنزويلية.