كما كان متوقعاً، «أسبوعُ المُتْعَةِ» والتأليف بدأ يتَحَوَّل أسبوعاً لـ»المَنْتَعَةِ» والتسويف. وتبيَّن أنّ القصر خَبّأ للرئيس المكلَّف مفاجآتٍ تجنَّب كشْفَها في الأيام الأولى، لأنّ تنفيس غضبة 4 آب يقتضي الأيحاء بأنّ «الطقس جميل». وفيما كان «الجمهور» متحمِّساً للتداول بأوَّل الأسماء المرشحة لدخول الحكومة الموعودة، يوم أمس، باشر الجميع هبوطاً اضطرارياً إلى أرض الواقع.
توحي الأجواء أنّ الرئيس نجيب ميقاتي ليس مستعداً ليعيش تجربة الرئيس سعد الحريري في التأليف. ويُقال إنّه سيعطي نفسه والقَصر والمنظومة السياسية فرصة تقاس بالأسابيع، ولكن ليس بالأشهر.
هو يدرك أنّ حجم الكارثة سيكون ثقيلاً جداً عليه إذا نجح في التأليف. ولكن إذا فشل فسيتحمّل هو المسؤولية في وضعية التكليف. وهذه الوضعية هرب منها الحريري، ولا يتوقع أحد لميقاتي أن يقع فيها مجاناً، وهو المعروف بحنكته السياسية.
إذاً، هي مسألة أيام لبلورة الاتجاه: إما فرصةٌ لتسويةٍ داخلية وإما يتواصل الانزلاق نحو قعر الهاوية. لكن المثير هو الاستنتاج الذي توصَّل إليه خبراء دوليون لهم خبرة عميقة في الشأن اللبناني، ومفاده أنّ لبنان سيتجّه في الحالين، حتماً، إلى أقصى الانهيار، وسواء تمَّت التسوية السياسية المرجوَّة أو تعثَّرت!
ويشرح هؤلاء تصوُّرهم كالآتي: إذا تمَّت التسوية وولدت حكومة جديدة، فسيتكرّس «الستاتيكو» القائم بكل تجلّياته، وستحتفظ منظومة السلطة بسيطرتها على مقدّرات السياسة والمال والاقتصاد والأمن.
وفي هذه الحال، ستنجح المنظومة في منع التغيير الذي تطالب به الجهات الدولية والعربية، وستواصل لعبة كسب الوقت لتعويم نفسها سياسياً، إما بالتمديد أو بضمان نتائج الانتخابات المقبلة، ولو بالتزوير غير المعلن، أي بقانون مدروس «على القياس».
ونتيجة لذلك، سيتسارع الانهيار عملياً، في المال والنقد والاقتصاد والسياسة وحتى الأمن – كما هو حاصل اليوم – ويستمرّ بلا ضوابط حتى بلوغ ما يُسمّى «الارتطام الكبير».
وفي المقابل، يضيف هؤلاء، إذا تعطَّلت التسوية وتعثّرت عملية التأليف فستأتي النتائج كارثية، لأنّ الانهيار الحالي سيتمادى بلا حدود، فيما القوى العربية والدولية ستمتنع عن مدّ اليد إلى لبنان، ما دامت المنظومة هي الممسكة بزمام السلطة.
إذاً، في الحالين، وفي غياب الحلول الجذرية، سيزداد الاهتراء وتتفكّك المؤسسات، وسيؤدي ذلك إلى نشوء وقائع سياسية وأمنية جديدة. وحينذاك سيتغيّر لبنان جذرياً، وسيكون مجبراً على الاستسلام للضغوط من الداخل والخارج. وهنا، يتحدث المطلعون عن 3 سيناريوهات مرجَّحة اضطرارياً، وكلها ساخنة:
1 – سيناريو الوصايات على لبنان: كما في تجارب سابقة، عندما تتفكَّك المؤسسات وتسقط، تتلاشى القواسم المشتركة بين المجموعات الطائفية والمذهبية، وتنشأ البدائل المحلية. وعندئذٍ يصبح وارداً اندلاع قتالٍ بين القوى على النفوذ.
وتاريخياً، لم يتقاتل اللبنانيون إلّا في حضور قوى خارجية، إقليمية أو دولية، أو بتحريض وتخطيط منها، أو لاستجلاب هذه القوى. وغالباً، ما بدأت القوى الخارجية تدخّلاتها بدعم طرفٍ معين، بذريعة الحماية، وانتهت بفرض الوصاية على البلد.
واليوم، يقول «حزب الله» إنّه يخشى فرض وصاية دولية، أميركية وفرنسية. فيما خصومه يتحدثون عن وصاية إيرانية مفروضة الآن. وبين الخيارين، ثمة مَن يتحدث عن وصاية سورية مستجدة يتمّ تسويقها بمقولة أنّ اللبنانيين أثبتوا فشلهم في إدارة شؤونهم، وأنّ الفوضى اللبنانية تشكّل خطراً على الغربيين والعرب، وأنّ دمشق هي الخبيرة العتيقة الأكفأ في إدارة شؤون اللبنانيين وضبطهم.
2 – سيناريو الانفجار العسكري بين إسرائيل وإيران في لبنان وربما في سوريا أيضاً. وستكون الدولة اللبنانية هي الحلقة الأضعف، بين قوتين إقليميتين كبيرتين.
وفي ضوء ما سيفرزه النزاع الإيراني – الأميركي، وملف التطبيع بين العرب وإسرائيل، ثمة من لا يستبعد حصول اتفاق بين لبنان وإسرائيل يتجاوز ملف الحدود، بتشجيع من الغرب، أو أن تفاجئ دمشق الجميع وتبادر إلى صفقة سلام مع إسرائيل، ثم تطلب من الغرب مكافأتها باستعادة دور لها في لبنان.
3 – هناك سيناريو استمرار الانهيار والتفكُّك والتحلُّل في لبنان، كما هو سائر الآن، إلى ما لا نهاية، وفي غياب أي رغبة أو مصلحة لقوة إقليمية أو دولية بالتدخّل وإنقاذ الوضع، خارج شحنات الأغذية والأدوية وبعض المال للناس والجيش.
هذه المساعدات لن تمنع الجوع والفلتان الأمني، ولن تتكفّل بإنهاض المؤسسات المنهارة. وهذه الحال تعني استمرار الستاتيكو الراهن أشهراً أخرى، أي حتى الانتخابات المقرَّرة في السنة المقبلة على الأقل، لعلّ وقائع ومعطيات جديدة تُفرَز آنذاك.
الأخطر في السيناريوهات الثلاثة هو أنّها جميعاً تدور «على الساخن»: في الأول قتال داخلي يَستدرج الوصايات الخارجية. وفي الثاني حرب إسرائيلية – إيرانية يخوضها «حزب الله» وتترك تداعياتها في الداخل. وفي الثالث فلتان أمني واحتقانات شعبية وصدامات بين الناس والسلطة، لا أحد يعرف كيف سيتمّ تنفيسها ومَن سيدخل على خطِّها للاستثمار.
لذلك، ما يجري في خلدة لا حدود إطلاقاً لمخاطره، بطبيعته وتوقيته وسياقاته السياسية والاجتماعية والطائفية. والنار الموقودةُ تحت الرماد في خلدة منذ عام وأكثر، ومثلها نيران نائمة في أماكن أخرى «حسّاسة»، قد يجري تثميرها في شكل كارثي في السيناريوهات المقبلة.