إتخذت المملكة العربية السعودية، بين 26 آذار و29 نيسان، ثلاثة قرارات استراتيجية مفاجئة: إعلان «عاصفة الحزم»، والتي تمّ إلحاقها بـ«إعادة الأمل»، وتتويجها بتغييرات داخلية من العيار نفسه.
قبل «عاصفة الحزم» كان الحدث في مكان آخر، وتحديداً في اتجاهين: الاتفاق النووي الإيراني وتداعياته في ظل «جوقة» أصحاب النظرة السوداوية بأنّ الاتفاق الأميركي – الإيراني سيحكم المنطقة لعقود من الزمن، وبالتالي قضي الأمر.
والاتجاه الآخر ميداني عبر إضافة عاصمة عربية (صنعاء) إلى العواصم التي تخضع للنفوذ الإيراني. وفي موازاة التطورين النووي والميداني أطلقت طهران حملة سياسية – إعلامية هي الأولى من نوعها تتحدث فيها عن الامبراطورية الإيرانية وعاصمتها بغداد، والاعتداد بالنفس بفِعل سيطرتها على أربع عواصم عربية، وذلك في سياق الحرب النفسية المكمّلة للحرب العسكرية.
وبعد «عاصفة الحزم» اختلف المشهد رأساً على عقب: إعادة اليمن إلى الحضن الخليجي – العربي، الحفاظ على الستاتيكو في العراق ولبنان، وتقدّم المعارضة ميدانياً في سوريا. وفي موازاة ذلك، تحوّل الخبر النووي، على أهميته، إلى خبر ثانوي، فيما تقدمت أخبار المملكة ومبادراتها إلى واجهة الحدث السياسي الإقليمي، حيث نجحت في وَقف الفِعل الإيراني ووَضعها في موقع رَد الفعل.
فكلّ المخاوف من الاتفاق النووي كانت من أن يتضمّن ملحقاً سرياً حول الإقرار بالدور الإقليمي لإيران، ومنحها الضوء الأخضر للتحكّم بالقرار السياسي في المنطقة.
أمّا وأنّ التطورات المتلاحقة منذ «عاصفة الحزم» أظهرت أن لا اتفاقاً سرياً أميركياً – إيرانياً، بل هناك ترحيب دولي بالدور السعودي، فإنّ مفعول الاتفاق النووي سيتحوّل تلقائياً إلى مفعول داخلي، بل من المتوقع أن يفتح مرحلة جديدة على هذا المستوى سيكون عنوانها «إيران أوّلاً»، أي إعادة إعطاء الأولوية للبعد الداخلي لا الخارجي.
فالمارد الإيراني الذي خرج من القمقم مع سقوط نظامَي طالبان وصدام لم يأخذ في الاعتبار احتمال إيقاظه للمارد السنّي، وهذا ما يفسّر سلوكه الفوقي وممارسته الاستكبارية وتصرّفه الاستعلائي، وكأنّ هذا الاحتمال لم يكن وارداً في حساباته نتيجة ثقته الكبيرة بنفسه ونظرته الدونية إلى خصومه.
فلَو راعَت طهران التوازنات بالحد الأدنى، ولم تَولِّد انطباعاً بأنها تتجه للتحوّل إلى امبراطورية نووية، لَما كانت الأمور اتخذت هذا المنحى الذي يَصبّ في نهاية المطاف في مصلحة الدول والشعوب العربية التي كانت بدأت تيأس من الوضع الذي كان قائماً.
وعوضاً من أن يتعامل محور المقاومة مع التطورات المستجدة بواقعية، واصلَ سياسة التعمية بتلفيق الأخبار، إمّا عن قناعة في مؤشّر إلى طغيان العامل الأيديولوجي على الواقعية السياسية، وإمّا لرفع المعنويات المنهارة والتي ظهرت من خلال ردود الفعل العشوائية. فكان الحديث عن أنّ السعودية بتورّطها في اليمن ستلقى مصير الرئيس صدام حسين بعد تورّطه في الكويت.
ولكن، تبيّن أنّ طهران هي التي دفعت ثمن تورّطها في اليمن لا العكس. وكان الحديث اليومي عن إنجازات الجنرال قاسم سليماني وانتصاراته المتنقلة بين العواصم العربية، فإذا به يختفي فجأة عن الصورة الميدانية.
وكان الحديث عن الحسم القريب للنظام السوري، فإذا بهذا النظام يتراجع وينكفئ في أكثر من موقع ونقطة استراتيجية. وكان الحديث قبل وفاة الملك عبدالله بن عبد العزيز بأنه سيكون آخر ملوك السعودية الآيلة إلى الانهيار والسقوط، فإذا بانتقال السلطة يتمّ بسلاسة مطلقة تدلّ على متانة الوضع الداخلي السعودي وقوته وترابطه وصلابته.
وكان الحديث عن أنّ قيادات المملكة هرمة وبطيئة وغير قادرة على اتخاذ القرارات، وعندما اتخذت قرار التجديد بدأ الحديث عن غياب الخبرة وغيرها، وأنّ التغييرات الأخيرة هي تعبير عن مأزق، لأنّ الدولة التي تكون في عزّ الحرب لا تجري أيّ تغيير سلطوي، فيما هذا التغيير يعكس مدى ثبات الوضع الداخلي، ويؤشّر إلى التوجّه الحازم للمملكة من أجل مواجهة التحديات الكبرى والمتمثّلة بتعليق الشعوب العربية الآمال عليها لاستعادة الدور العربي، وترسيم حدود الدور الإيراني، وإعادة الاعتبار والحضور لنظام المصلحة العربية.
وقد حان الوقت، ربما، لأن يراجع محور المقاومة مواقفه وحساباته ورهاناته، وأن يتجاوز تمنياته وأحلامه، وأن ينظر إلى الواقع ويتعامل معه على هذا الأساس. فالاستقواء الإيراني كان نتيجة طبيعية لخلوّ المسرح العربي للاعب الإيراني منفرداً، أمّا وأنّ اللاعب العربي قرر أن يأخذ دوره، فبدأ الإيراني ينكفئ تدريجاً في الساحات كلها، وسيجد نفسه قريباً مضطرّاً إلى تسريع التسويات من أجل أن يحفظ بعضاً من نفوذه.
فالتعامي عن الواقع يقود إلى الانتحار والانهيار، فيما التسليم بالوقائع الجديدة يشكّل مدخلاً طبيعياً لتسويات متوازنة. التعيينات السعودية الجديدة هي جزء من مسار متكامل ومترابط بدأ مع انتخاب الملك سلمان واستكمل بـ«عاصفة الحزم» و«إعادة الأمل» وتُوّج بالتغيير الأخير، وسيتواصل هذا النمط وصولاً إلى العالم العربي الجديد الذي يسوده السلام والاستقرار ويمهّد لإقامة الدولة الفلسطينية المنشودة، لأنّ المسار الآخر كان هدفه تغذية إسرائيل والاستثمار بالفوضى، فيما المسار الجديد هو الذي سيقود إلى حلّ أمّ الأزمات في المنطقة لِما فيه خَير الشعب الفلسطيني والشعوب العربية.
3 مفاجآت سعودية و«الخَير لقدّام». فالزمن الماضي انتهى، ومن يريد الاستمرار في الأوهام لا بد من أن يستفيق عاجلاً أم آجلاً للتسليم بالوقائع الجديدة.