Site icon IMLebanon

عن أسطوانة مشروخة اسمها تركة الـ 30 سنة الماضية!

 

من يَذكر مشروع قانون تدقيق حسابات المؤسسات العامة الغائب في أدراج النسيان؟

 

 

ليس صعباً التكهن بما ستؤول إليه المنازلة الحاصلة بين طرفي المعادلة السياسية الراهنة تحت عنوان إزاحة حاكم مصرف لبنان أو غيرها من العناوين الخلافية المتعلقة بالإصلاح ومحاربة الفساد. لأسباب عديدة ومتقاطعة لا يجرؤ أي طرف أو تحالف سياسي على المضي في مقولة مكافحة الفساد، لأنها تعني، ببساط، إدانة الجميع دون استثناء، وما يبقى هو التوظيف الممجوج لهذه الشعارات بهدف الكيديات السياسية ولتحصيل مكاسب والتهام المواقع واستخدام مؤسسات الدولة وسلطاتها للتشفي والانتقام، لكل ذلك تبدو الثقة بالاصلاح المزعوم مفقودة.

 

يجهد رموز العهد في محاولة إقناع اللبنانيين بأنهم يريدون الاصلاح، ويتبارى هؤلاء بالمحاضرة عن مكافحة الفساد، هكذا تبدو تصريحات رموزه من جبران باسيل إلى حسان دياب ومن قبلهما «حزب الله» عن هذا الأمر أشبه بحفلة زجل تُكرر ذات الردّيات، من تحميل المرحلة السابقة مسؤولية من آلت اليها الأوضاع من انهيار، إلى معزوفة استعادة الأموال المنهوبة و(لزوم السجع) الموهوبة ومحاكمة الفاسدين وغيرها، فيما البلد يقف على مشارف الانزلاق نحو انفجار اجتماعي يدخله في المجهول.

 

يرى كثيرون أن ما يخوضه العهد وراعيه هي حرب إلغاء تنطلق من عقلية ثأرية في شق منها، وفي الشق الآخر، تعكس قراراً بالاطباق النهائي على مؤسسات الدولة وتطويعها، لإرغام الداخل ومساومة الخارج. وفي هذا السياق تحضر الاستعراضات الخطابية المكررة والممجوجة عن تحميل الـ 30 سنة الماضية مسؤولية ما آلت إليه الأمور المالية والنقدية والاقتصادية في لبنان، وينسى هؤلاء، تحديداً التيار العوني وحزب الله، أنهم شركاء في الحكم منذ 2006 و2009، وأنهم منخرطون حتى النخاع بملفات عديدة تفوح منها روائح الفساد في الكهرباء والفيول والبواخر والجمارك والكازينو والتهريب والتهرّب الضريبي والأملاك البحرية وغيرها.. ثم إن غالبية مكونات التحالف السياسي لحكومة دياب هم شركاء، إلى جانب الأحزاب الرئيسية غير المشاركة، في إدارة كل المرحلة السابقة. هكذا تظهر أهمية الانتقال بشعار المحاسبة والإصلاح من الشعبويات والكيديات السياسية إلى منطق الدولة والقانون.

 

يحلو لمتابعين تشبيه ما يجري حالياً ببداية عهد اميل لحود لناحية المبالغة برفع شعارات الإصلاح ومحاربة الفساد، خصوصاً لناحية رفع شعارات استعادة الأموال المنهوبة ومحاكمة الفاسدين وغيرها، بقاسم مشترك هو استهداف السنية السياسية في المقام الأول، وكذلك طموحات الإطباق على مفاصل الدولة، والانقضاض على الخصوم السياسيين بشكل عشوائي وكيدي وحاقد تمهيداً لفرض تغيير صيغة النظام. وإذا كان عهد لحود دخل التاريخ بوصفه عهداً أسود سلّم القرار الوطني والسياسي للوصاية الخارجية وأذرعها ثم اصطبغ بدماء سلسلة من الشهداء من الرئيس الشهيد رفيق الحريري وآخرين، قبل أن تحيله ثورة الشعب الغاضب من جريمة 14 شباط إلى التقاعد المبكر، فإن العهد الحالي يغطي فشله في تحقيق أي انجاز بتكرار معزوفة محاربة الفساد عينها، أما عبثيته وعشوائيته فلا أحد يعلم أين ستوصل البلد.

 

وبكل الأحوال، وبالعودة إلى العام 2006، وفي مواجهة ديماغوجية شعارات محاربة الفساد حينها، أحالت حكومة الرئيس فؤاد السنيورة مشروع قانون إلى مجلس النواب بمرسوم حمل الرقم 17053 تاريخ 25 أيار 2006، يرمي إلى مراجعة وتدقيق حسابات الأشخاص المعنويين العموميين، طلب فيه السنيورة ووزير ماليته جهاد أزعور «تدقيق حسابات الإدارات العامة والمؤسسات العامة والبلديات واتحادات البلديات والمرافق العامة التابعة للدولة أو للمؤسسات العامة وفقاً للقواعد الدولية للتدقيق».

 

وجاء في الأسباب الموجبة لمشروع القانون «أن شوائب عديدة ربما تكون اعترت مرحلة بناء الدولة وأدت إلى إثراء غير مشروع أو منفعة على حساب المصلحة العامة، مما جعل الكثيرين من السياسيين والمواطنين يشيرون بأصابع الاتهام إلى المسؤولين عن إدارة الدولة خلال الفترة المذكورة. ومن أجل جلاء هذه القضية بإيفاء كل ذي حق حقه من جهة، وبمعاقبة كل مخالف أو مرتش أو متواطئ أو مهمل أو مقصّر من جهة ثانية، أعدت الحكومة (حينها) مشروع القانون لتدقيق شامل يتناول أداءها خلال الفترة اللاحقة لاقرار وثيقة الوفاق الوطني في الطائف ولغاية آخر عام 2004، بحيث يتناول هذا التدقيق الموجودات والمطلوبات وقيدها في الحسابات». ولإضفاء مزيد من الشفافية والحياد في إجراء عملية التدقيق الشامل المقترحة، نصّ مشروع القانون على الإجازة للحكومة التعاقد مع شركة دولية تتمتع بالحيادية والصدقية للتدقيق أو أكثر لإنجاز هذه المهمة.

 

لاحقاً، ومع عودة بروز ذات الخطاب السياسي الشعبوي، عاد السنيورة وأوضح أمام المجلس النيابي بأن الدافع لمشروع القانون «التشديد على الحيادية والموضوعية في عمل الدولة من أجل تسليط الضوء على الحقائق بكل شفافية ومن دون تعمية، والتشديد على اعتماد المعالجات اللازمة بعيداً عن الغَرَضية والاستغلال السياسي ومنعاً لتوظيف عمل الدولة في خدمة الأغراض السياسية لأي فريق تسوّل له نفسه استخدام مؤسسات الدولة وأجهزتها من أجل الاقتصاص من الآخرين الذين يعارضونه أو لا يتفقون معه أو لا يأخذون برأيه»، وقال إنه «من غير المقبول أن تكون فوق رأس أي شخص يعمل في الشأن الحكومي أو في الشأن العام خيمة تحميه من الرقابة اللاحقة، أو المساءلة والمحاسبة، أو أن يكون فوق القانون».

 

المشروع ما زال قابعاً في أدراج المجلس النيابي، والنواب والكتل والتيارات، وتحديداً الذين نصبوا أنفسهم نظّاراً للحسبة، لم يعيروه التفاتة، لأن الحقيقة تُريح، ولأن الأرقام تدحض الأوهام، وتردّ الافتراءات، وتُفقدُ المتباكين منابر الوعظ الكاذب التي احترفوا اعتلاءها.

 

تلك الخطوة ليست صكّ براءة لأي تيار أو حزب، بل محاولة لو كتب لها النجاح لأراحت اللبنانيين من كثير من الاستغلال الحاصل اليوم تحت عنوان الاصلاح والمساءلة ومحاربة الفساد، أما عرقلة المشروع فتؤكد أن الفساد بحرٌ خاض فيه الجميع، وإن دلّ على شيء فعلى أَحقية وصوابية شعار «كلن يعني كلن».