لم يكن الرئيس محمود عباس محتاجاً لكلام سلبي عن سلوك يهود أوروبا ليؤكد تراجع الاهتمام بقضية بلاده، وهو إذ يعقد دورة جديدة للمجلس الوطني الفلسطيني في رام الله عارضتها «حماس» وفصائل أخرى، كان حرياً به التركيز على فلسطين وطناً لكل أبنائه، مسلمين ومسيحيين ويهوداً، بدل تبنّي مشاعر نازيي أوروبا وطائفيي العالمين العربي والإسلامي الذين يضعون اليهود جميعاً في صندوق النمط الواحد ويشملونهم بحكم لا يستثني فرداً مختلفاً أو جماعة مغايرة. وحده الدين هو ما يسم الإنسان لدى هؤلاء ويمنع فرديّته ويحشره مرغماً في جماعة ذات مواصفات.
بهذا يقدّم عباس نفسه متعصّباً وطنياً أو قومياً، في الوقت الذي يناهض سلوك اسماعيل هنية الإسلامي السياسي الذي يجد خارج فلسطين صلة أكثر متانة من تلك التي تربطه بمواطنيها العلمانيين أو غير المسلمين.
وفلسطين التي تملك من مأساتها ما يعصمها من انحراف عن الشأن الوطني تحوّلت قياداتها إلى سلوك منكفئ كانت ولا تزال تأخذه على الصهاينة. ويذكر أنصار القضية في العالم أدبيات منظمة التحرير التي طالما أحرجت المدافعين عن إسرائيل حين كانت تفرّق بين عنصرية الاحتلال وانفتاحها على العالم وتقديمها فلسطين وطناً لجميع أبنائه.
المشرق العربي الآن غارق في الطائفية، تمزّق مجتمعاته في العراق ولبنان وفلسطين وتدمر سورية التي صارت مسرحاً للصراع على الإقليم، إذ تشخص إليها أنظار العالم لمعرفة طبيعة الحرب الإسرائيلية – الإيرانية، وهل تبقى محصورة في سورية ام تصل إلى أراضي الدولتين المتحاربتين.
بنيامين نتانياهو وحسن روحاني قطبا العصبيتين المتحاربتين في المشرق، وفي صراعهما لا مجال لاستقرار يتيح انتخابات معقولة (في لبنان الأحد المقبل وفي العراق في 12 الجاري). بالتالي تغيب الديموقراطية لمصلحة الشمولية، وتتغلب غريزة البقاء على أي اجتماع بشري متنوّع. نحن أمام أفراد خائفين ومجتمعات أكثر خوفاً، لذلك تتفاقم المشكلات وتتوالى الحروب بلا ضوابط فإما قاتل وإما قتيل. اما الضحية المؤكدة فهي بلاد كانت أوطاناً أو شبه أوطان وشعوب كانت مجتمعات أو كانتونات متعايشة على الأقل.
المشرق العربي واقع بين دولتين لا تستطيعان العيش بلا حرب، إسرائيل منذ تأسيسها وإيران منذ ثورتها الخمينية، وقد اختارتا الى الآن الحرب على أرض الغير، خصوصاً سورية. لكن لبنان، البلد الأكثر حرباً والأقل سلماً مع إسرائيل، يقف على حافة الهاوية، خصوصاً أن «حزب الله» يمتلك أضخم ترسانة صواريخ إيرانية ويشكل التهديد الأكبر للدولة العبرية. هل يستطيع قادة «حزب الله» التنصُّل من أوامر بالحرب قد تصدرها طهران؟ وهل يصل اليأس بخامنئي إلى حدّ التضحية بجوهرة تاج الخمينية في لبنان فيفقد حتى مجرد الحلم بنفوذ على شاطئ البحر المتوسط؟ أسئلة مثل هذين وأكثر يطرحها اللبنانيون في صخب المهرجانات الانتخابية ذات المنحى الطائفي. صحيح أن الطائفية موجودة منذ وجد لبنان، لكنها مع النفوذ الإيراني ازدادت تعقيداً، فتداخل الديني بالمذهبي من دون أن تغيب الحساسيات العشائرية والجهوية.
والجديد اللبناني هو مشاركة المغتربين في الانتخابات، وهي تجربة أولى ناجحة على رغم ثغرات إجرائية يمكن تفاديها في الدورات المقبلة. ومثل صديقته فرنسا يخطط لبنان لتخصيص مقاعد في برلمانه للمنتشرين في أنحاء العالم. لكن الذين تابعوا انتخابات المغتربين، من سيدني إلى غواديلوب إلى لوس انجليس، ظنوا أنهم أمام أقلام اقتراع في طرابلس أو زحلة أو صور. ومبعث الظن أن حيوية المنتخبين في أنحاء العالم (وهم قلّة لحسن الحظ) ظهرت في إطار طائفي يطغى على الإطار الوطني المفترض. بذلك تبدو انتخابات اللبنانيين خارج وطنهم مجرد زيادة في الاحتشاد الطائفي: هل يعجز هؤلاء عن المشاركة في انتخابات أوطانهم البديلة، أم أنهم يعانون حيث هم من شيزوفرينيا سياسية صعب شفاؤها؟
في المشرق العربي ينتظرون حرباً ربما لن تحدث، إذ يكفيهم الانتظار الطويل ليشهدوا دماراً في النفوس والعقول أكثر سوءاً من وقع القذائف.