Site icon IMLebanon

«مؤتمر 4 آب» آخر الرسائل التحذيرية للبنانيين

 

لو لم يكلّف الرئيس نجيب ميقاتي تشكيل الحكومة العتيدة لكان اللبنانيون قد نسوا «المبادرة الفرنسية» وما قالت به، وتحديداً لجهة مواصفات وزرائها وهويتهم الحيادية، ولا سيما منهم من سيتولون الحقائب الخدماتية التي تُعنى بالشؤون الاقتصادية والمالية والإغاثية. ففي المفاوضات التي سبقت اعتذار الحريري كانت المحادثات قد تجاوزت شكل المبادرة ومضمونها بمعزل عن الحراك الديبلوماسي الفرنسي، وما استجرّه من دعم اميركي واوروبي. ولذلك ما الذي يعنيه ذلك؟

كان واضحاً بالنسبة الى المراقبين انّ المبادرة الفرنسية التي أطلقها الرئيس ايمانويل ماكرون في 2 أيلول العام الماضي، قد فقدت نصف بريقها لمجرد اعتذار السفير مصطفى أديب بعد 24 يوماً على تكليفه، ولم يحيي تكليف الرئيس سعد الحريري في 22 تشرين الاول الجزء المتبقّي منها، بسبب التفسير الذي تمّسك به معارضوه، ساعين الى نزع الصفة الحيادية عنه لمجرد انّه رئيس حزب وتكتل نيابي كبير. وكادت هذه الصفة التي نالها من جزء من اللبنانيين تكون نهائية، لولا التوصيف المضاد الذي قال انّ موقع رئيس الحكومة بميثاقيته المذهبية في التركيبة اللبنانية المتعارف عليها، يتجاوز المواصفات المطلوبة في الوزير الحيادي والمستقل. فهو موقع سياسي بامتياز، وأحد الأعمدة الثلاثة لاركان الدولة وسلطاتها، أكثر مما هو موقع تقني او متخصص. فهو يتقدّم مواقع الوزراء كافة وإن كان واحداً منهم.

 

وعلى وقع المناكفات التي رافقت المفاوضات الصعبة التي خاضها الحريري مع عون لتشكيل الحكومة، بدأ اللبنانيون يتناسون المبادرة الفرنسية، بعدما سقطت معظم اوراقها وتجاوزت التطورات مختلف المِهَل التي رسمتها خريطة الطريق الى التعافي والإنقاذ. فالجميع يتذكر انّ هذه الخريطة قالت بتشكيل الحكومة خلال أسبوعين، تليها انطلاقة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، لتفتح الباب امام مسلسل المؤتمرات الموعودة لمساعدة لبنان في تجاوز أزمته الحادة والتخفيف من حدّة الانهيارات المتسارعة والمتناسلة من قطاع الى آخر.

 

ولكن ما رُسم على ورق «المبادرة الفرنسية» بقي حبراً محته المماحكات اللبنانية، وعبرت المراحل الاولى مما قالت به، من دون ان يترجم اللبنانيون أي بند من بنودها. لا بل فقد انحرفت المفاوضات الحكومية عن معظم بنودها، وتحديداً مواصفات الوزير غير الحزبي. فأصرّ الثنائي الشيعي على وزارة المال، وتلاه التيار متمسكاً بحقيبة الطاقة، كما اصرّ الرئيس المكلّف على وزارة الداخلية، قبل ان تقع الخلافات على بقية الحقائب الاساسية والخدماتية، على قاعدة تقاسم الحصص، بنحو أبعد عن الحكومة كل الصفات المطلوبة، وتحولت عملية تأليفها ما يشبه إنشاء «جمعية» تختار الكتل النيابية الحزبية أعضاء هيئتها الادارية، مدّعية بحقها منح الثقة للحكومة العتيدة من عدمها، متجاهلة انّها تنازلت لـ «حكومة المهمّة» عن هذا الحق، ولو كان دستورياً، لمجرد موافقتها المسبقة أثناء وجودها على الطاولة المستديرة في قصر الصنوبر، على شكل الحكومة وهيكليتها ودورها ومهامها.

 

وفي هذه الأجواء، جاءت العوائق التي حالت دون ولادة التشكيلة الحكومية الاولى التي رفعها الحريري في 9 كانون الأول الماضي، لتقضي على ما تبقّى مما قالت به المبادرة الفرنسية. وبرزت المطالبة بأسماء المستشارين والقريبين المخفيين لعضويتها بنحو سافر يصعب اخفاؤه، ليس على اللبنانيين فحسب، إنما على أصحاب المبادرة الذين رافقوا الاتصالات المتعثرة حول الحقائب، ولم ينجحوا في تصويب البوصلة في اتجاه ولادتها.

 

ولا ينسى المراقبون، انّ البعض من قادة الأحزاب اختار صقوره لعضوية الحكومة، الى درجة هدّدت بانتفاء التزاماتهم بحيادية الوزراء واستقلاليتهم، وتناسوا ما تعهّدوا به في الاستشارات النيابية الملزمة التي قادت الى تسمية الحريري، وتلك غير الملزمة التي اجراها بنفسه على خلفية الحاجة الى حكومة بكل المواصفات الدستورية. ولذلك، تراجعت الحظوظ بولادة التشكيلة «الفذة» التي انتظرها الفرنسيون كما اللبنانيون، ومعهم معظم الدول الصديقة للبنان والمؤسسات المانحة، بعدما تيقنوا انّ اللبنانيين تمكنوا من «لبننة» المبادرة وافرغوها من مضمونها. ولم تنفع التهديدات التي أطلقوها بفرض العقوبات على المعرقلين من أكثر من عاصمة ومنبر. ولم يتراجع أحد عن «عرشه» على الرغم من التحذيرات من أنّ لبنان لن يحظى بدولار واحد كقرض او مساعدة قبل تشكيل الحكومة التي يمكنها ان تطلق مسار المفاوضات مع الجهات المانحة وترميم الثقوب في القطاع المصرفي وما جرّ البلاد الى الانهيارات المتتالية وقادت اللبنانيين الى ما لم يكن يتوقعه احد.

 

عند هذه الحقائق، أيقن العالم انّ اللبنانيين كذبوا على ماكرون والعالم، وتجاوزوا كل الخطوط الحمر، ولم يتعظوا من حجم النكبات التي حلّت، ولم يهابوا مخاطر انحلال الدولة ومؤسساتها، فسارع المجتمع الدولي الى إنقاذ ما يمكن إنقاذه، او على الاقل الى منع انهيار أعمدة الهيكل الاساسية، فأطلقت البرامج والحملات لدعم الجيش والقوى الامنية الأخرى، وسعت فرنسا الى ترجمة دعوة رئيسها الى تأمين «الخدمات العامة» التي افتقدها اللبنانيون، بعدما انهارت قطاعات الطاقة وافتقد البنزين والمازوت وأصناف من الادوية الحيوية التي هدّدت حياة اللبنانيين وقيّدت حركة النقل في البلاد. هذا بالإضافة الى ما بلغته نسبة الغلاء الذي منع اللبنانيين من الحصول على أبسط مقومات العيش بعدما تبخّرت مدخراتهم.

 

وعلى وقع هذه المعطيات الخطيرة جاء اعتذار الحريري عقب سقوط تشكيلته الحكومية الثانية، وكُلِّف ميقاتي استكمال المهمة في ظروف بدأت تتبدّل بسرعة، لتنحو الى ما انتهت اليه مهمة سلفه. فالكباش القائم اليوم حول حقيبتي وزارتي الداخلية والعدل يهّدد ما تحقق بسرعة قياسية، وإن لم يُعلن ذلك على الفور، فلأنّ هناك مساعي جبارة تُبذل، أفضت الى مهلة الايام الاربعة الفاصلة بين لقاء أمس الاول الخميس بين عون وميقاتي، الى اللقاء الرابع بعد ظهر الإثنين المقبل، لعلّ الاتصالات الجارية تفضي الى نتيجة، بعد دخول الروس على خط الاتصالات ومن قبلهم ومن بعدهم الفرنسيين والاميركيين، على وقع حملة ديبلوماسية تستهدف إعطاء زخم غير مسبوق في مؤتمر 4 آب لدعم لبنان، ليكون محطة انذار أخير لتأجيل الانهيار الكبير.

 

وعليه، كانت اشارة الرئيس المكلّف الى الاطراف الجدد الذين سيشاركون في هذا المؤتمر، لإعطائه زخماً كبيراً اراده الفرنسيون ومن خلفهم قوى دولية اخرى، بدفع فاتيكاني متجدد، لتوجيه آخر الرسائل الى المسؤولين اللبنانيين، بغية فهم خطورة المرحلة والتراجع الفوري عن الشروط التعجيزية قبل فوات الاوان. فهامش المناورة ضاق الى الحدّ الاقصى، وإنّ ما بات مطلوباً هو التزام الحدّ الادنى من المبادرة الفرنسية، قبل إطلاق برامج العقوبات على اكثر من مستوى على خلفية ما يُقال: «إنّ آخر الدواء الكي».