قد يكون افضل ما يواكب الذكرى الـ٤٠ لاشتعال الحرب في لبنان في ذاك التاريخ الأشهر والاقوى سطوة على ذاكرة مجايلي الحرب تسليم لبناني عام بأنها باتت ذكرى مع اختلاف جذري طبعا لم تتمكن العقود الاربعة بعد في محوه حول توصيف الحرب نفسها. هذا الخلاف العمودي المستديم هو إياه الذي لا يزال يطبع خشية فطرية لدى اللبنانيين من الا تكون بذور الانقسام بمثابة الطبيعة الثانية في التركيبة اللبنانية الشديدة الهشاشة التي غالبا ما كانت تشكل واجهة داخلية مؤهلة لحجب الوجه الحقيقي الخارجي المفجر للتجارب القتالية والحروب في لبنان واستباحته على غرار ما حصل في ذاك الصباح الدامي من يوم ١٣ نيسان ١٩٧٥.
ولعل الالتباس التاريخي لا يقتصر على توصيف الحرب فحسب بل أيضاً على تأريخ انطلاقتها بذاتها. فالنظرة الاشد موضوعية في هذا السياق تذهب الى اعتبار العام ١٩٦٩ البداية الفعلية او على الاقل الشرارة الاساسية التي أهلت الواقع اللبناني للانفجار في ظل المواجهة العسكرية التي انفجرت بين الجيش اللبناني والتنظيمات الفلسطينية ووضع اتفاق القاهرة القاهر للسيادة اللبنانية بمنحه الفلسطينيين حق استخدام العرقوب منطلقا لعمليات المقاومة ضد اسرائيل. “فتح لاند” تلك التي استباحت لبنان بديلا وحيدا لمواجهة مع اسرائيل بالأصالة والوكالة عن القصور العربي كانت واقعيا الوجه الآخر للاستباحة الخارجية التي سعت ونجحت في تفجير لبنان من منطلقين تقاطع عندهما الأعداء – الحلفاء في ذاك الزمن. وجه اول عربي ارتكز الى التركيبة الهشة الضعيفة للدولة اللبنانية والطبيعة الطائفية للبنان لإراحة الساحات والانظمة العربية من عبء المواجهة المباشرة وغير المباشرة مع اسرائيل فاصطف بالكامل وراء الفلسطينيين وسط مناخ تأييد عارم لقضيتهم اجتاح الشارع العربي ومن ضمنه الشارع اللبناني نفسه. ووجه دولي واسرائيلي أسلس القياد لمقولة الدولة البديلة للفلسطينيين علما ان التركيبة اللبنانية على ضعفها بدت في مطالع السبعينات نموذجا مؤرقا للعرب وإسرائيل سواء بسواء كون الدولة العربية الوحيدة المتمعة بفائض الحريات هددت في عمقها أنظمة عسكرية توتاليتارية قامت على أنقاض أسطورة مقاومة اسرائيل فيما كانت الدولة اليهودية أيضاً تنظر بأرق كبير الى النموذج اللبناني الذي يفضح أحادية طبيعتها.
في ١٣ نيسان ١٩٧٥ قدم العامل الفلسطيني نفسه “فاتحا” لأكثر التوصيفات شهرة التي أطلقها عميد “النهار” والصحافة اللبنانية غسان تويني وهي “حروب الآخرين على ارض لبنان”. كانت الدويلة الفلسطينية قد ذهبت بعيدا في بسط ممارسات الاستباحة سواء في الجنوب حيث منحت شرعية تقاسم السيادة والانتشار المسلح مع الجيش اللبناني او في الداخل وخصوصا في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين ومحيطها. لم يكن اشتباك عين الرمانة سوى انفجار مؤجل كان سيحصل في اي موعد آخر. اما الجانب الأهلي من الحرب الذي شكل النتيجة الحتمية للانفجار فكان في البدايات سياسيا وطائفيا بكل المعايير قبل ان يتحول لاحقا قتاليا داميا. ارتدى الصراع طابعه الطائفي مع الانقسام الحاد حول الصدام الاول في عين الرمانة. أراد زعماء مسلمون عزل حزب الكتائب الذي كان يجسد القوة المسيحية الاكبر لانه تصدى لاختراق الفلسطينيين بمحاولة اغتيال الزعيم التاريخي للكتائب الشيخ بيار الجميل فقتلوا اربعة من مرافقيه ابرزهم جوزف ابو عاصي وانقضوا على “البوسطة” التي كانت تنقل مسلحين فلسطينيين الى مخيم تل الزعتر فقتل اكثر من ٢٧ مسلحا. اشتعلت الشرارة على وقع هذا الاشتباك في ما سمي آنذاك “الجولة الاولى”. لعل احدا من اللبنانيين لم يتخيل ان تلك الجولة أطلقت العنان لحرب ستتمادى لمدة ١٥ سنة وتشكل قاطرة لاستحضار مزيد من العوامل الخارجية الى أتون اللهب المتصاعد على شهوات تحويل لبنان الارض البديلة الملعونة في الصراعات الدولية والاقليمية والعربية المتصلة حينذاك بالصراع العربي – الاسرائيلي.
لا يحتاج الامر الى عناء كبير الآن، والآن تحديدا بعد ٤٠ سنة من ١٣ نيسان ١٩٧٥، للتسليم بان “كونسورسيوم “الحروب الخارجية على لبنان مثلت معظم مكونات الحقبات القتالية المدمرة بتعاقب مدهش على استدراج الواحد منها للآخر. حرب السنتين في ١٩٧٥ و١٩٧٦ شكلت العنوان الأم للصراع الفلسطيني – اللبناني علما ان الجانب المسيحي تحول مقاومة وحيدة للفلسطينيين المسلحين بدعم عربي واسلامي لبناني ونشأت في مواجهته “الحركة الوطنية” التي ضمت الأحزاب اليسارية والفصائل الفلسطينية ونشأت على الأثر معادلة الجبهتين اللبنانيتين المتصارعتين “الجبهة اللبنانية” ذات الوجه المسيحي العريض و”الحركة الوطنية” ذات الوجه اليساري والإسلامي والفلسطيني. شهدت حرب السنتين الجولات الاشد قتامة في تاريخ الحرب التي تداخل فيها عامل “حروب الغرباء” مع “الحرب الاهلية”. تهجير الدامور بعد السبت الأسود كان النموذج المرعب لما حل بلبنان من فظائع، ولكنه شكل أيضاً فاتحة انزلاق النظام السوري الى تشكيل العامل الخارجي الثاني في إذكاء النيران. بدأ التسلل السوري يتضخم تدريجا ممهدا للعب الدور الأطول والأشد سطوة على تقلبات الصراع فنجح في تفريغ قوة الردع العربية من كل مكوناتها العربية ليحصرها بالقوات السورية تماما كما فعل بعد نهاية الحرب وانبلاج فجر الطائف حين استأثر بتنفيذ طائفه مجوفا الاتفاق الدولي – العربي من مضمونه. حاصر المعسكر المسيحي وانقلب لاحقا على حلفاء الامس وضرب “الحركة الوطنية”. وما لبث بعد زيارة أنور السادات لإسرائيل وصلح كامب ديفيد ان انقلب على “الجبهة اللبنانية” وضرب الأشرفية في حرب المئة يوم ثم حاصر زحلة وكانت ذروة الاحتدام الاقليمي الذي أشعله في ازمة الصواريخ بعد ضرب اسرائيل لقمم صنين في بداية الثمانينات ونشوء وساطة فيليب حبيب على نارها.
من العاملين الفلسطيني والسوري الى العامل الثالث الطارئ المتمدد من الجمهورية الاسلامية الناشئة آنذاك في ايران عقب ثورة الامام الخميني على نظام الشاه وإطاحته، وبينهم دوما العامل الإسرائيلي بدأ الفصل الاشد خطورة في تحويل لبنان ارض حرب اقليمية بالواسطة. اجتاحت اسرائيل اول عاصمة عربية، بيروت، في حزيران ١٩٨٢ وأخرجت منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان واستدرجت معها القوة المتعددة الجنسية في ما شكل اكبر تورط او توريط دولي في الحرب. لم يكن العامل الايراني قد ظهر بوضوح آنذاك الا حين بدأ تسديد الضربات الهجومية التفجيرية على السفارة الاميركية في عين المريسة ومن ثم على موقعي المارينز والقوات الفرنسية بين عامي ١٩٨٣ و١٩٨٤. في مسار دموي مواز لعله الاشد دموية ووطأة على الواقع الطائفي والسياسي والفرز الديموغرافي كانت حرب الجبل في ١٩٨٣ أسوأ محطات القتال الأهلي اللبناني اطلاقا التي أدت الى تهجير المسيحيين من الشوف درة التعايش المسيحي – الدرزي. ذاك الجرح الهائل المأسوي الذي ضرب “سر الأسرار” في تكوين الجبل الاستقلالي انخرط في دمائه العامل الخارجي الفلسطيني والسوري والاسرائيلي سواء بسواء موظفا الغرائزية الطائفية اللبنانية حتى ذراها.
أما المرحلة الايرانية فبدأت صعودها الى الواجهة بعد ١٩٨٣ – ١٩٨٤ تاريخ ظهور “حزب الله” كقوة شيعية ثانية من رحم حركة “أمل” متصلة بارتباط كامل بايران وحرسها الثوري الذي نظم الحزب وسلحه وسائرة على نهج الامام الخميني وولاية الفقيه علما ان توهج هذا العامل اتخذ مداه الاوسع بعد الطائف.
ليس المقام هنا للخوض في مرحلة ما بعد الطائف التي لها ما يتماهى وما يختلف مع حقبة الحرب. لكن ما لا يمكن تجاهله هو ان الحقبة الاخيرة ما قبل الطائف شهدت الفجيعة الكبرى التي ضربت المسيحيين في اواخر نهاية آخر عهود جمهورية 1943 اي عهد الرئيس امين الجميل مع انفجار الصراع العسكري في “المناطق الشرقية” بين العماد ميشال عون و”القوات اللبنانية” بقيادة سمير جعجع وهي الحقبة التي شهدت أيضاً انشطارا دستوريا بقيام حكومتين احداهما برئاسة عون والثانية برئاسة الرئيس سليم الحص. افضت السنتان الاخيرتان قبل التوصل الى اتفاق الطائف الى المهلكة المسيحية التي لعبت دورا حاسما في اضعاف الموقع المسيحي في توازن القوى، الامر الذي سيجرجر ذيوله بقوة في مقلب “السلم الاهلي” بعد الطائف وهيمنة الوصاية السورية الكاملة على عصر ما بعد انتهاء الحرب.