عجبي من شعب، لبناني، او شعوب لبنانية، تحيي الذكرى الاربعين لقيام الحرب العام 1975، ولا تحيي مثلا ذكرى توقف الحرب، الا اذا كانت شعوبنا لم تقتنع بانتهاء الحرب بشكل حاسم لا عودة عنه. في الاحتفالات التي اقيمت منذ ايام، وتستمر اليوم وغدا، نوع من الفولكلور، وخطب رنانة، وعروض بهلوانية، لا ترقى الى مستوى الحدث، لأن المصالحة الحقيقية لم تتحقق بعد، وتنقية الذاكرة ما تزال مفهوما بعيدا من عقلنا، والدروس والعبر التي نتحدث عنها باستمرار امرا مثيرا للضحك تارة وللاشمئزاز طورا. فالحقيقة اننا لم نتعلم شيئا من الماضي، كما الذين سبقونا، اذ كانت الحروب تتكرر في وطن الارز كل مدة من الزمن، وكانت شعوب لبنانية تنزح او تهجر من منطقة الى اخرى، وكنا على الدوام نستقوي بالخارج على بعضنا البعض، لاننا لم نشعر بأننا امة واحدة او شعب واحد، بل شعوب لها حضاراتها وثقافاتها واصولها ولغاتها وعاداتها. هذه الشعوب ربما قررت ان تعيش معا في اطار جامع توافقنا على تسميته “الديموقراطية التوافقية”. ولعل هذه الديموقراطية هي النموذج الافضل الذي سيتبعه العالم كله بعد حين، في ظل تنامي العصبيات الدينية والعرقية واللغوية وغيرها. لكن هذا النموذج يحتاج الى تطوير وبلورة رؤى مستقبلية لما يمكن ان يكون عليه مستقبلا، لاشراك كل الفئات والشعوب في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في مختلف البلدان والدول، بعدما بلغ التعدد حدا يتهدد خطر الوحدة في كيانات كثيرة. والنموذج اللبناني يمكن ان يتطور ليكون بديلا لانظمة سقطت او تهاوت، ومنها الشيوعية والاشتراكية والعروبة، والعلمنة الى حد ما.
وبالعودة الى واقعنا الاليم، نرى اننا حاليا شعوب تتحاور وتتناطح وتختلف وتتصالح، لا انطلاقا من المصلحة الوطنية، وانما من مصالح الافراد تارة، او من مصالح الدول الاقليمية تارة اخرى. وقد يكون الواقع الحالي ابرز دليل إلى ما نحن فيه، فالصراع المحتدم في المنطقة يأخذنا بجريرته، ويضعف “مناعتنا” الداخلية. اهل السنة في لبنان مع المعارضة السورية، ومع النظام اليمني، ومع “عاصفة الحزم” التي تقودها دول الخليج العربي وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية. اما الشيعة فهم مع النظام السوري، وضد النظام في البحرين واليمن، في تأييد لامحدود لما تقدم عليه الجمهورية الاسلامية الايرانية، ولا رادع بين ابناء المذهبين الا قرار سياسي متوافر حتى اللحظة يقي البلاد شر حرب اهلية جديدة دقت ابوابنا مرات عدة في الاعوام الاخيرة.
هذا القرار الذي يمضي كمن يسير في حقل ألغام، معرض للسقوط في اي لحظة يقرر فيها احد اللاعبين الاقليميين ادخالنا في حرب جديدة، ومع سقوط قرار التهدئة اذا ما حصل، وقد حصل جزئيا في طرابلس وسعدنايل وفي احياء بيروتية، تشهد شوارعنا من جديد مظاهر مسلحة، ويتطوع بعض الاعلام لبث الفتنة، لنتأكد اننا لم نتعلم من حرب 75 شيئا.