على وقعِ الجبهات المشتعلة انطلقَت شرارة حبّهم، بمتاريس المعارك المحتدمة حصّنوا لقاءاتهم، ومع القنص المتبادل اقتنَصوا قبلات تُخمد نيران شوقِهم. جُلّ ما حلموا به آنذاك «نعيش وما يعرف حدا فينا»… هم الذين اختبروا الحبّ في الحرب اللبنانية، فخاضواً حرباً من نوع آخر، لم يعرفوا فيها استراحة المحارب، تجرّعوا مرارة الحصار، لسعة الانتظار، قاتلوا، ناضلوا، قاوموا، مدجّجين بالحب، تواعَدوا تحت «القصف والضرب»، فكانت «النَعم» الأبدية أقوى من أزيز الرصاص.
صَمتت المَدافع، هدأت الجبهات… 42 عاماً ولبنان يَستذكر حربَ الآخرين على أرضه، تلك الحرب التي أنهَكت قواه وأفرغَته من شبابه، منهم تحت التراب ومنهم خلف البحار، وآخرون انطبعَت ضراوةُ المعارك في تشوّهاتهم. ولكن خلف هجعة الليل الطويل، ومن بين الأبنية المهدّمة، ورغم شبحِ الموت الدائم الجوع، رفرفت قلوب، تشابكت أيدٍ، تعانقت شفاه، فكان الحبّ بالمرصاد للحرب.
«لو بدّي انطُر الحرب لتِخلص ما كِنت تزوّجت لليوم»، يقول طانيوس لـ«الجمهورية» معتبراً «أنّ شبح الحرب لم يغِب يوماً عن لبنان، إنّما يطلّ بأشكال مختلفة، بأسماء جديدة، بأساليب مغايرة». لذا لم يُفكّر للحظة أن يُرجئ زفافَه رغم أنّه كان يقود سيارة إسعاف للصليب الأحمر، وعلى تماس يومي بواقع الحال ميدانياً وصعوبة التنقّل.
خاف طانيوس أن تُفرّقه الحرب عن خطيبته فوجَد الحلّ الأنسب بالزواج، فيقول: «كلّما اشتدّت المعارك زدتُ ولعاً بخطيبتي، فقرّرنا أن نتزوج في كنيسة مار مارون – الجمّيزة، عام 1983، لكنّ اشتعال محاور القتال أجبَرنا على نقل الزفاف إلى كنيسة الصعود في ضبية بمن حضَر». يتأمّل اليوم طانيوس أولاده الأربعة بكلّ افتخار، قائلاً: «لو اللبناني بخاف كنّا خلِصنا من زمان وما عمِلنا عيال».
أصابته بسهامها!
أمّا طوني سليم الذي نجا من قذائف الحرب، فقد أصيبَ باكراً بسهام نظرات حبيبته ميراي (15 عاماً)، فكانا يتواعدان كلّ أحد بعد القدّاس في باحة كنيسة دخول السيّدة للروم الأرثوذكس في الأشرفية. وعن علاقتهما التي نَمت تحت القصفِ، تفتح ميراي قلبَها لـ«الجمهورية» قائلةً: «تعرّفت إلى طوني كوننا من أبناء الرعية وغالباً ما تجمعنا المناسبات الدينية، وما توافَر من أنشطة في تلك الفترة.
لم أفكّر يوماً أن تكون الحرب عائقاً بيننا إلّا في الليلة التي اتّصَل بي طوني عارضاً عليّ «نروح خطيفة»، علماً أنّ أهلي يحبّونه وموافقون عليه، وكنتُ قد بدأتُ مرحلة تعليمي الجامعية، ولكن الأوضاع الأمنية المتشنّجة والمعارك المتنقّلة لم تكن تشجّع على أيّ زفاف كبير».
تصمتُ لبرهةٍ مستذكرةً تحضيرات زفافها، فتتسارَع دقّات قلبها وتلمع عيناها قائلة: «إتّفقنا أن نتزوّج في أيار العام 1989، فغادرتُ المنزل قبل ليلة لأنام عند أقارب طوني، وللمفارقة كانوا يملكون متجراً لتأجير فساتين الأعراس فأمّنوا لي فستاناً.
أمّا شعري فتوجّهتُ صباح موعد زفافي بفستاني الأبيض إلى حلّاق في ساحة ساسين، كان قد فتحَ واجهة محلّه نصفَ فتحة على اعتبار: «ما بيضهَر من بيتو إلّا المجنون»، لم يتوقع أن تقصدَه زبونة، فوصَلتُ على غفلة، حنَيتُ رأسي ودخلتُ لأخبرَه أنّه يوم زفافي، وليختَر لي التسريحة المناسبة».
إستبشرَت ميراي خيراً من الليلة الهادئة التي مضَت، وأملت أن يمرّ زفافُها على خير، فتقول: «دخلت كنيسة السيّدة منهمكةً بفستاني، للحظةٍ نسيتُ أنّنا في حرب لولا مشاهد الدمار المحيطة بالكنيسة، بدأت مراسم الإكليل، ومعها عاد صوت الرصاص فاستعجَل الكاهن حرصاً على سلامة الحاضرين».
شكّلت سيارة هذا الثنائي المزيّنة بالورد أمام مدخل الكنيسة علامة حياة وسط الدمار، والسيارات المحروقة، فجذبَت إليها عدسات الكاميرات الأجنبية. وما إن انتهى زفاف طوني وميراي على وقعِ اشتعال المعارك، أمسَك العريس بيدِ عروسِه وترافَقا إلى السيارة ومن هناك بدأت رحلتُهما في التقصّي عن مكان آمِن يمضون فيه ليلة عسلِهما الأولى.
رصاص بدل المفرقعات
«يا مجنون مين بيتزوّج اليوم»، «يا عمّي وين رايحين»… وغيرها من التعليقات التي لا تزال ترنّ في آذان العروسين رغم مرور أكثر من 26 عاماً على زفافهما، لكنّها لم تحدَّ من شجاعتهما للحظةٍ. ويَستذكر طوني ضاحكاً «ضرب جنون» زواجه، «كنتُ أنوي السفرَ إلى الخارج، فكان من غير المنطق أن أتركَ ميراي وحدها، فإمّا نحيا معاً أو نموت معاً. لذا تزوّجنا وبعد شهر سافرنا عبر مرفأ جونيه بباخرة شحن إلى قبرص، ومن هناك إلى كندا قبل أن نعود إلى لبنان لاحقاً».
يَعتبر طوني أنّ انتظار عودة الهدوء إلى لبنان لتنفيذ أيّ مشروع كمن يبيع السمك في عرض البحر، فيقول: «تزوّجنا سريعاً بلا طبل وزَمر، وعوضَ الأسهم النارية معارك وقذائف، ولكنّ سعادتنا لا توصَف». ويتابع بحماسة لا متناهية: «بعدما غادرنا الكنيسة توجّهنا شمالاً حيث الأجواء أكثر أماناً، بحثاً عن تمضية فترةِ عسلٍ هادئة، لكنّنا لم نجد فندقاً يستقبلنا، لاكتظاظِه بالمهجّرين، فتوجّهنا نحو مارشربل عنّايا، وفي طريقنا التقينا بـ«كونفوا» ريو لـ«القوات»، وعرفوا أنّنا «عرسان جداد»، فسُمح لسيارتنا أن تمرّ وسط سياراتهم الرباعية الدفع وأمطرونا بالزمامير والهيصات».
ويضيف: «تعبنا من البحث عن مأوى نمضي فيه ليلتَنا الأولى، نحو 10 فنادق «مفَوّلين»، إلى أن وصَلنا إلى فندق «إهمج» فأمّن لنا غرفةً بين المهجّرين، ولكن فقط لليلتين لأنّها محجوزة، أمضَينا يومين من العمر، ولسنوات متتالية كنّا نقصد تلك الغرفة في الموعد نفسِه ونتناول الترويقة عينَها، ولاحقاً علمنا أنّ الفندق أقفِل».
تتوالى قصص الحب، ومنها قصّة الحبّ التي جَمعت جوزف وريتا، وهي لا تقلّ غرابةً عن الذين عصَفت بهم رياح العشق.
فكانت كنيسة السيدة عاريا الشاهدة على حبّهما في 10 تمّوز 1982، وبعدما تَعذَّر على الإشبينة الوصول نتيجة احتدام المعارك، تبرَّعت إحدى الجارات بأن تكون إشبينة ريتا. وعلى وقعِ ارتفاع أزيز الرصاص، بدا المشهد واحداً في الكنيسة، الحاضرون ممسكون بسبحاتهم ويصَلّون خوفاً، على نيّة السلام، فيما العروسان يغرّدان كعصافير الحبّ مع الكاهن وهو يترَأس سرَّ الزواج.
قذائف لم تنفجر
يَصعب على الأب الياس فرح خادم رعيّة دخول السيدة تَعدادَ المرّات التي منَح فيها سرَّ الزواج تحت القصف والضرب، فيقول لـ«الجمهورية»: «رغم ما عصَف بالمنطقة من ويلات، بقوّة الله بقيَت أبواب رعيتِنا مفتوحة لتحتضنَ أفراح أبنائها وأحزانَهم، وأكثر من مرّة أصيبَت الكنيسة ونحن نصَلّي، لكنّ قدرة إلهية منَعت القذائف من أن تنفجر».
ويضيف: «كنّا ما إنْ ندخل الكنيسة حتى تَغمرنا الراحة، وقد ولَّدت الحرب لدى الناس مقاومةً نفسية، فباتوا أكثرَ تمسّكاً بالحياة ورفضاً للموت، معظم الشباب كانوا توّاقين لبناء عائلة وإنجاب الأولاد».
في وقتٍ خَلت الأعراس في فترة الحرب من مظاهر البهجة، وتمَّت وسط هامشِ تحرّكٍ ضيّق، إلّا أنّ معظمها تَكلّلَ بالنجاح وبقيَ الحب يظلّلها مدى أجيال.
في المقابل تَبرز في الآونة الأخيرة سرعة الانفصال وطلبُ الطلاق بين العروسين رغم البزخِ ومظاهر الفرح التي رافقت زفافَهما، في هذا الإطار، يقول فرح متأسّفاً: «غابت البساطة ومعها طهارةُ الحب، وبات معظم المتزوّجين منهمكين في تعداد likes، فوسائل التواصل الاجتماعي لم تترك لهم حيلاً، ومعظم الأعراس مجبولة بالمظاهر، وتنعدم فيها القناعة».
وختاماً تبقى العبرة في وصيّة الأب فرح إلى كلّ متحابَّين، «خافوا على بعض وليس مِن بعض، متى دخلَ الشكّ دُمّرت العلاقة».