ببساطة شديدة، ما انفجر في مرفأ بيروت قبل عام بالتمام والكمال، في الرابع من أغسطس (آب)، هو لبنان نفسه السائد حتى لحظة الموت العميم تلك. انفجرت بلاد بكاملها بنظامها وقوانينها وعلاقاتها وقواها السياسية.
لبنان الذي نعرفه، انتهى لا بسبب الانهيار المصرفي والمالي والنقدي، ولا بسبب الأزمة الاقتصادية التي تضرب هذا البلد الصغير وتعد بين أسوأ ثلاث أزمات كونية من قرن ونصف! لبنان الذي نعرفه انتهى لحظة انفجار المرفأ، التي كأنها لحظة تكثيف درامية لكل الأعطال السياسية والأخلاقية التي حكمت لبنان إلى حينها.
سيرة هذا التفجير، منذ دخول نترات الأمونيوم إلى لبنان، خلافاً لكل القواعد الناظمة لمثل هذا الأمر في أي دولة في العالم، ثم تخزين النترات ثم استخدام الجزء الأكبر منها ثم انفجارها ثم تعاطي الدولة مع تبعات الانفجار نفسه ولاحقاً تداعياته القانونية والاجتماعية، كل هذه السيرة هي سيرة النظام الذي انفجر لا المرفأ.
صار معلوماً أن مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي خلص إلى أن كمية نترات الأمونيوم التي انفجرت كانت خُمس الشحنة التي تم تفريغها هناك عام 2013 من دون إعطاء أي تفسير عن مصير بقية الشحنة. وصار معلوماً من تحقيقات أخرى أن حكاية الشحنة تنطوي على أسماء كثيرة، وهمية وحقيقية، وعناوين متداخلة، لشركات وسماسرة ومستوردين وموردين، تنضح جميعها بجبال من الشبهات حول الشحنة وكيفية وصولها إلى لبنان… وصار معلوماً أيضاً أن نترات الأمونيوم ارتبطت بأنشطة مشبوهة لـ«حزب الله» في أكثر من دولة وعاصمة بمثل ارتباطها ببراميل بشار الأسد التي كانت تلقى على المدنيين في مدن الموت في سوريا.
لكن ذلك ليس كل شيء. ثمة موظفون وقضاة وقعوا على وثائق محددة أجازت إدخال المواد وتخزينها. وثمة موظفون، مدنيون وعسكريون، علموا وشهدوا على استخدام الجزء الأكبر من هذه المواد، ويعرفون أن هذا الاستخدام متورط فيه أشخاص بأسماء محددة وعناوين محددة وأرقام هواتف، وآليات وله مواقيت وبروتوكول محدد، ويغطي رقعة من البشر يمكن تعريفها بدقة.
وصار معلوماً أن موظفاً كبيراً في المرفأ قال لأهالي الشهداء إنه يعلم مخاطر النترات وإنه خاطب من تنبغي مخاطبته بشأنها وإنه كان يعلم أن هذا ملف غير مسموح له الاقتراب منه.
وصار معلوماً أن عدداً من المتوفين في ظروف غامضة، بعد الانفجار، تقود سيرهم الخاصة إلى ساحة الجريمة، وتختلط حقب من مساراتهم المهنية بمهمات في المرفأ، وبعضهم بملف النترات تحديداً.
وصار معلوماً أن سجلاً طويلاً من المراسلات قد حصل بالفعل بين عدد كبير من الدوائر الحكومية والوزارات والمعنيين باستقبال وتخزين واستخدام النترات، وأن أحداً لم يحرك ساكناً إما إهمالاً وإما تجاهلاً وإما خوفاً وإما تواطؤاً…
ومعلوم أيضاً أن السلطة السياسية تفعل المستحيل جهاراً نهاراً للتشويش على المسارات القانونية والقضائية لهذه القضية، وأنها تخترع كل أنواع وأشكال المناورات القانونية والفقهية والدستورية والمذهبية بغية تعطيل أي تقدم جدي على مسار كشف الحقيقة، من رئاسة الجمهورية إلى مجلس النواب ورئاسته إلى كل دائرة ترتبط بأي من الاثنين، مروراً بالطبع بالحكومة التي أسقطها الانفجار، وصولاً إلى الغالبية العظمى من القوى السياسية التي تشكل منظومة «المافيا والميليشيا».
الانفجار حصل، لا في المرفأ، بل في قلب هذه المنظومة، التي لم تحسن منذ تلك اللحظة أن تستجمع قواها وتماسكها، أو أن ترمم ذرة من كرامتها، وهي التي نطق باسم يأسها الرئيس المكلف نجيب ميقاتي قائلاً: «أريد أن أذهب إلى المطعم… أريد أن أعيش».
ببساطة شديدة بات عيش هذه الطبقة السياسية مرتبطاً بما ستؤول إليه معركة المرفأ التي تعد اليوم المعركة الوجودية الوحيدة للبنان واللبنانيين، من دون أي مبالغات أو اختزال.
وببساطة أكثر، صار المرفأ هو المطهر الاضطراري لكل من يريد أن يجد لنفسه فسحة عيشٍ في لبنان، وألا يقضي بقية حياته مطروداً ومطارداً.
تعلم السلطة السياسية أن الانفجار، وهو ثالث أكبر انفجار غير نووي في تاريخ البشر، هو انفجار أصاب قلب نظام «حزب الله»، أي منظومة الميليشيا والفساد، والزبائنية، والتحاصص، والخصخصة المريضة، أي تخصيص المرافق والمواقع لأمراء المنظومة. الانفجار أصاب قلب التعايش بين الدولة والميليشيا، وأصاب فوق كل ذلك الدور الذي أريد للبنان أن يكونه، أي النخاع الشوكي لمشروع الدمار الخميني، المسمى مقاومة.
يعلم كل اللبنانيين اليوم أن يد ميليشيا «حزب الله» طولى في كل المعابر الحدودية للبنان، وأن الميليشيا مكون عضوي من مكونات حرب النظام السوري على شعبه، وحروب إيران في المنطقة، وأن الحزب ما وصل إلى هذا المستوى من القدرة على التحكم في لبنان من دون استتباع الجزء الأكبر من مفاصل الدولة، في الأمن والاستخبارات والقضاء والوزارات والوظائف الحساسة حتى بعض القطاع الخاص.
هذا اللبنان انفجر إلى غير رجعة. ولو فازت منظومة «حزب الله» (أي «حزب الله» وحلفاؤه وخصومه) بكل الانتخابات المقبلة النيابية والرئاسية، ولو شكلت هذه المنظومة حكومة كل وزرائها من أبناء المنظومة الأبرار فلن تستطيع إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل انفجار المرفأ.
ببساطة أكثر وأكثر: الحقيقة الواضحة الكاملة الصارخة فيما حدث في المرفأ هي الممر الوحيد لولادة لبنان الجديد، وإلا المزيد من الدمار والانهيار والتعفن الذي يصيب أول من يصيب «حزب الله» ومشروعه وحاجته الاستراتيجية للاستقرار في غرفة عملياته المركزية التي اسمها لبنان…
في الرابع من أغسطس 2020. لم ينفجر مرفأ بيروت. في الرابع من أغسطس 2020 انفجرت جمهورية «حزب الله».