5 عوامل حتّمت عودة العلاقة الدولية مع فرنسا ومنعت تشظّي أزمة الإستقالة
الديبلوماسية اللبنانية أدركت العقل الفرنسي المتجدد فجعلت إستقرار لبنان حاجة ملحة لباريس
إحدى العوامل التي اشتغلت عليها الدبلوماسية اللبنانية، موضوع النازحين السوريين والخوف من انتقالهم صوب سواحل القارة العجوز
نجح إيمانويل ماكرون في إرساء نظم حداثيةٍ جديدة للسياسة الخارجية لفرنسا، معتمدا الواقعية Le Realisme، (لا يجدر خلطها بالـRealpolitik)، وواضعاً حداً لأعوام من هيمنة اليمين الأيديولوجي على هذه السياسة، هذه الهيمنة التي أنتجت إلتحاماً – حد الإلتحاق – بالسياسة الأميركية، وتعتقد الإدارة الرئاسية الفرنسية أنها تسببت بخسائر جمّة لباريس في عدد من الميادين الخارجية، والأهم خسارة عدد مما يعرف بالأصدقاء التاريخيين (لبنان – الدولة من بينهم) على حساب نهج إديولوجي – شخصي – مصلحي في احيان كثيرة.
تسلل ماكرون، الوسطي الذي يوصف في عدد من عواصم القرار بالبراغماتي لا الإنفعالي ذي الأولويات المحددة مسبقاً، من هذه الثغرة تحديداً، ليبسط رؤيته الواقعية على السياسة الفرنسية، فكان التحوّل الاول والاكثر تعبيراً، في الميدان السوري. وهو سبق أن أعلن في حزيران 2017 أن مكافحة الإرهاب تتقدّم فرنسياً على أي أولوية أخرى بما فيها مصير الرئيس بشار الأسد، بالتوازي مع حبكه علاقة تقارب إستراتيجي مع روسيا. ورغم أن هذا التغيّر الدراماتيكي أحدث تصدّعات مع الإستابليشمنت الأميركي، والكثير من الضوضاء داخل فرنسا، تمسّك ماكرون بحرفيته ونجح في تحقيق إختراقات ملحوظة على مستوى تعزيز الحضور الديبلوماسي – الخارجي في ميادين التأثير الفرنسي المباشر (أفريقيا والشرق الأوسط مثالاً).
في الأسبوع الأخير، أعاد الرجل الروح الى علاقة فرنسا بلبنان – الدولة، مستنداً بشكل كبير الى الإلتباسات التي لا تزال ترافق مسألة استقالة الرئيس سعد الحريري. يكرر في لقاءاته في الإليزيه، كما فعل في زيارتيه الى الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، أن إستقرار لبنان يتقدّم على أي شأن إقليمي آخر. ويعني هذا الإستقرار بالمفهوم الماكروني عزل لبنان عن أي تدخل خارجي أو تصفية حسابات أو حرب بالوكالة، سواء كان المتدخل عربياً أو إقليمياً أو دولياً. ولا يستوي سوى التدخل الإيجابي الذي من شانه حصراً تصليب الاستقرار اللبناني، وتقوية مناعة الهيكل السياسي الناظم الذي لا يزال يشكّل حاجة ملحّة للحفاظ على صورة الدولة – الكيان.
حتّمت العودة الفرنسية الى لبنان – الدولة مجموعة عوامل، منها:
أ- إعادة ربط ما إنقطع من تقارب تاريخي في العلاقة الدولتية بين البلدين (علاقة عاطفة قبل أن تكون علاقة عقل)، إثر أكثر من عقدين شهدا الكثير من التقطّع وسوء الفهم وأحيانا الطلاق. فالأم الحنون التي طالما رأى فيها اللبنانيون ملجأ خلاص من إستبداد وضيق، إستنكفت عن دورها، وإستبدلته بعلاقة شخصية (مصلحية في أحيان كثيرة) أنتجت كل هذا الفراق.
ب – ترميم الحضور الفرنسي في المشرق، إنطلاقا من لبنان. ونجحت باريس في خطّ أولى أحرف هذا الترميم من باب أزمة الإستقالة، مع تيقّنها أن الطريق طويل لتحقيق ما تصبو إليه من عودة مظفّرة الى المشرق، تعيد لها الدور – الإشراقة الذي خبرته ما بعد مرحلة القرون الوسطى، وصولا الى منتصف القرن العشرين.
جـ – إطلاق دينامية فرنسية، بمواكبة دولية هادئة، ترمي الى كفّ أي تدخل خارجي في لبنان، بما يؤمن إستعادة التوازن المحلي والإقليمي. وهذه الدينامية ستكون المؤسسة الرسمية اللبنانية في صلبها، وستشكل آليات ضامنة للتسوية المنتظرة.
د – عدم جواز تجاهل حقيقة إستضافة لبنان مليون ونصف مليون نازح سوري. وتُشكل هذه الكتلة عامل تهديد وجودي لأمن أوروبا في حال تسبب أي خلل لبناني في انتقالها صوب سواحل القارة العجوز.
هـ – توكيد مركزية لبنان في إستقرار المنطقة، بمعنى أن أي مدخل لاستقرار الإقليم يحتّمه الإستقرار اللبناني، وأن أي مشاريع إعادة ترتيب أحوال هذا الإقليم لا بدّ لها أن تأخذ في الإعتبار هذه الحقيقة، تماماً كما أن أي مشاريع للثأر أو تصفية الحساب لا تستوي، ولا يجوز أن تستوي على أرض لبنان وبين ناسه.
أدركت الديبلوماسية اللبنانية، تمام الإدراك، هذا العقل الفرنسي المتجدد، لا بل إرتكزت عليه في حراكها الأخير، مما أتاح لها تسويق مقاربتها لأزمة الإستقالة وما تلاها من التباسات، والأهم تقديم الاستقرار اللبناني على أنه الحاجة التي من دونها تنتفي كل الحاجات الأخرى، بما فيها حاجة باريس لكي يكون لبنان منصةً لإستعادة ما فاتها من تأثير ونفوذ على مستوى المنطقة.