تتصدّر موسكو المشهد الاقليمي وعنوانه سوريا، رغم عودة واشنطن الخجولة الى الميدان مع جولة مبعوثها الخاص مايكل راتني بين موسكو والرياض وجنيف.
ليس قليلاً إمساك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأوراق إقليمية مهمة، منذ رعايته منتديَي موسكو الأول والثاني، ومشاورات جنيف، وصولاً الى استقبالاته العربية على هامش المعرض الجوّي، واستضافة لقاءات بين المعارضة ووفد النظام السوري، والامر برمته يعكس إصرارَ موسكو على تهيئة الظروف لعقد مؤتمر «جنيف3».
لكن ليس مهماً كثيراً رصد الاسباب الدافعة لهذا التحرك الروسي، بقدر أهمية فرص نجاحه، في ظلّ تسريبات بأنّ ما يهمّ الكرَملين ليس شخص الأسد، بل بقاء الدولة السورية ومؤسساتها، والمحافظة على المصالح الروسية في المتوسط، وإعادة فرض موسكو لاعباً أساسياً في المنطقة، وحماية حلفائها من خطر الإرهاب.
وفي مقابل هذه التسريبات، يصرّ وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف على تأكيد تمسك بلاده بالأسد، وأنّ تفسيرها لبيان جنيف الاوّل لم يتغيّر، وأنّ مفهومها له لم يُشر إلى تنحي الأسد، وأنّ مصير النظام رهن بإرادة السوريين.
وبين الموقفين، يمكن تفهّم الحراك الروسي بانّ أفقه أقلّ بكثير من انعطافة سياسية تجاه الأزمة السورية، وأكثر من أيّ وقت مضى، بإعادة تموضع، تضمَن عبره موسكو، استمرارَ نفوذها في سورية والإقليم.
على المقلب الآخر، تلعب طهران الورقة السورية بمفهوم استثمار استراتيجي، أيْ عدم التخلّي عن النظام، وفي اسوأ الظروف الانتقال الى الخطة باء، والحفاظ على خطّ ساحلي مرتبط بدمشق عبر سهل البقاع اللبناني والزبداني. وهذا الوضع يطرح استفهامات عن مدى تقاطع وتناغم الموقفين الروسي والايراني في سوريا، وأفاق تعاونهما.
ولعلّ بعض الاجابة حملها وزير الخارجية الفرنسية لوران فابيوس بعد زيارته طهران، بألّا تغيّرات في الأفق الإيراني على الأمد القصير…
إذاً هل المشهد السوري امام انسداد؟
الإجابة تعبّر حتماً أن لا فرق استراتيجياً بين الموقف الإيراني والحراك الروسي حيال الأسد، فسعيهما مشترَك الى منح بقائه الشرعية الكافية في أيّ حلّ سياسي، وطهران ترفض المساس بشخص الأسد، لأسباب مذهبية، مرتبطة بمستقبل نفوذها عبر النظام… وأيّ إخلال بدوره، يأخذ خططها الى كارثة سياسية على نفوذها الإقليمي.
أما موسكو التي توحي بتمسكها بمؤسسات الدولة السورية، لا بشخص الاسد، فلا تتنازل عن ورقته فعلياً، سوى لدى تسليم واشنطن بمصالحها في سوريا المستقبل، على غرار التسليم بسطوتها في القرم ومتفرّعاته من النفوذ الروسي في اوكرانيا… وهنا تسوق موسكو معادلتها الاتية: لا لشرعية كاملة للأسد مثلما تريد، كإيران، ولا لنزعٍ كاملٍ للشرعية عنه، كما ترغب الرياض وانقرة.
في الحراك الديبلوماسي، توقّعت صحيفة الغارديان، أن تؤسّس زيارة وزير الخارجية البريطانية فيليب هاموند، طهران، لإذابة الجليد بين الغرب وإيران، تمهيداً لمحادثات ممكنة، تتكّئ الى مناخ ايجابي يرسخه نجاح الاتفاق النووي، وتنسحب فصوله على الملف السوري… مع العلم أنّ هاموند لَمَس فعلياً إصرار طهران على بقاء الاسد «لإبقاء سوريا متماسكة».
في المحصلة، ترمي موسكو الى تحقيق خمسة أهداف على الأقل في مسعاها «السوري»:
1- تشكيل حلف داخل سوريا لمحاربة داعش، يشرعن النظام في مواجهة الإرهاب.
2- تأكيد دور إيران في أيّ حلّ سياسي، لمستقبل سوريا، رغم رفضها بيان جنيف.
3- نقل شرعية المعارضة الى «الداخل» لقبولها دور النظام في مستقبل سوريا.
4- الانتقال الى جنيف 3 على اساس واقع الميدان، لا على أساس العدالة، في ظلّ تقبل واشنطن تأجيل نهاية الأسد.
5- امتصاص أيّ تقاطع سلبي، مع طهران، في مصير النظام السوري، من دون الذهاب بعيداً في التنازل، ومن دون التصلّب حتى التصادم.
هل من ثقل للنظام السوري، وسط تبادل ورقته بين موسكو وطهران؟
الوقائع تشير الى تحفّظات الأسد على مرونة موسكو حيال مستقبله، ومفاضلته طهران عليها. إنما ليس الى حدّ الاعتراض العلَني، بل الاكتفاء بالتحفظات الخافتة، ما دامت موسكو تمتلك فعلياً مصيره، في علاقاتها الاستراتيجية مع الغرب.