1 – روسيا تريد إنهاء الحرب في سوريا واليمن بالتوافق مع الولايات المتحدة.
اعطيت تفسيرات عديدة لقرار الإنسحاب الروسي الجزئي و«المفاجىء» من سوريا. قد يكون مرد عنصر المفاجأة أن بوتين أراد ذلك، فسيد الكرملين معروف بحبه المفاجآت، والاستعراضات الدراماتيكية.
إضافة لذلك يريد لفت الإنتباه وترسيخ الصورة بأن روسيا عادت قوة كونية من الوزن الثقيل ليس بإلامكان تجاهلها بعد الآن في صناعة الأحداث.
بعض المراقبين يرى أن القرار فاجأ الرئيس اوباما الذي صرّح الناطق بإسم البيت الأبيض أن الرئيس الأميركي لم تكن لديه فكرة عن خطط روسيا بألإنسحاب، كما فاجأ الرئيس بشار الأسد و كل من بينهما.
المفارقة أنه في وقت متقارب ذكر الموقع الإلكتروني للكرملين أن الرئيسين الأميركي والروسي قد تحدثا هاتفيًا .
هذا في الشكل، أمّا في المضمون فإن الرئيس بوتين قرّر الإنسحاب في الوقت المناسب، أي قبل أن تتحول قواته إلى مجرد قوات تقاتل، على غرار حزب الله والميليشيات العراقية، بالوكالة عن النظام السوري، فهذا ليس من شأن الدول العظمى التي تتدخل عسكريًا لتغيير واقع أو لفرض واقع جديد، وإنطلاقًا من هذا المفهوم كان بوتين يهدف من تدخله العسكري المشاركة في قرار الحرب وفي قرار السلام وإيجاد حل للأزمة السورية.
إضافة إلى ذلك أراد بوتين أيضًا أن يخيب آمال أوباما الذي تكهن بأن روسيا سوف تغرق في الأوحال السورية، إلى جانب أن إطالة وجودها العسكري قد يعرضها للإصطدام المباشر مع لاعبين آخرين.
كل ذلك يبقى في باب التنظير، إن لم نقل التجريد، على غرار مقدمات نشرات أخبار بعض المحطات التلفزيونية اللبنانية وآراء بعض «الخبراء الإستراتيجيين» الذين تستضيفهم وتستمزج أو تستأنس بأرائهم، فالتضارب بين تصريحات البيت الأبيض وموقع الكرملين الإلكتروني، مرده على الأرجح توصل واشنطن وموسكو إلى إتفاق مقايضة غير معلن بإنهاء الحرب في كل من سوريا واليمن، أراد الرئيس أوباما التكتم بشأنه. في الواقع كان وزير الخارجية الاميركي جون كيري قد صّرح مؤخرًا أنه قد آن الأوان لإنهاء الحرب في البلدين، ولو كان أكثر صراحة لقال: تم الإتفاق مع موسكو على إنهاء الحربين إذ من المتفق عليه كما يقول الخبير الروسي في العلاقات الدولية فلاديمير فورلوف: بإستطاعة دولة عظمى أن تشن حربًا بمفردها، لكن إنهاءها يتطلب موافقة دولة عظمى أخرى. بعض المصادر تحدثت أيضًا عن صفقة نفطية، وكذلك عن تفاهم روسي- أوروبي بحل مشكلة اللاجئين كما تشتهي أوروبا ومشكلة أوكرانيا كما تشتهي روسيا.
2 – موسكو تريد الأسد أكثر قوة ومرونة لا أكثر تصلبًا وتعنتًا.
هناك تشكيكات قوية بتأكيد الرئيس الأسد إطلاعه بصورة مسبقة على القرار، ليس لأن الرئيس بوتين يعتمد السرية عادة حتى مع أقرب المقربين إليه وحسب، بل لان من أبرز المآخذ الروسية على الأسد في الأونة الأخيرة أنه يزداد تصلبًا في مواقفه كلما حقق تقدمًا في ساحات القتال، فيما تريده موسكو فقط أن يصبح أكثر قوًة.
إستطرادًا يطرح السؤال التالي: لماذا تتسم قرارات بوتين بصورة عامة بالسرية؟
هناك تفسيران. التفسير الأول هو أن النواة الصلبة الأكثر قربًا من بوتين تضم بالدرجة الأولى رجال أمن ومخابرات، وهم بطبيعتهم وتنشأتهم يميلون إلى السرية. التفسير الثاني، وهو الأهم، أنها ضرب من العلاقات العامة الناجحة تجعل المواطنين الروس يشعرون بأن لهم مكانتهم العالمية وهم يتابعون الأحداث على شاشات التلفزة، كما تعني السرية أن روسيا هي سيدة قراراتها، وقادرة على إتخاذها دون أية تأثيرات خارجية.
3 – حقق بوتين مكاسب عديدة من تدخله العسكري في سوريا .
تعدد صحيفة نيويورك تايمز ستة أهداف للتدخل الروسي هي:
أولًا: إجهاض محاولات الغرب بالدفع بإتجاه تغيير القيادة السورية والتصدي لمبدأ إحداث تحولات سياسية محلية من قبل قوى خارجية.
ثانيًا: الدلالة على أن موسكو هي حليف يمكن الإعتماد عليه بخلاف واشنطن التي تخلت عن حلفاء مزمنين لها من أمثال الرئيس حسني مبارك إذا ما تعرضوا لإنتفاضات ضدهم.
هناك أمر أكثر خطورة مما تذكره نيويورك تايمز في هذا المجال، هو توجيه رسالة واضحة المعالم إلى زعماء الشرق الأوسط، بل إلى كل زعماء العالم: يمكنكم الإعتماد على القوة العسكرية الروسية لتحقيق أهدافكم. وروسيا أكثر قدرة من الولايات المتحدة في توفير هذه القوة، خصوصا للأنظمة الإستبدادية، فبوتين بخلاف الرؤساء أوباما وهولاند وكاميرون ومعظم الرؤساء الغربيين غير مضطر لإستئذان كونغرس أو مجلس عموم أو جمعية وطنية.
ثالثًا: إستعادة روسيا الدور الذي كانت تلعبه في الحقبة السوفياتية كقوة كونية عظمى، ولاعب أساسي في الشرق الأوسط والتعامل بإحترام مع بوتين بإعتباره زعيمًا عالميًا.
رابعًا : كسر العزلة التي حاولت واشنطن فرضها عليها جراء الأزمة الأوكرانية، و فتح حوار مع الولايات المتحدة، و إلى درجة أقل مع اوروبا.
خامسًا: صرف الأنظار عن الحرب في أوكرانيا، وإلغاء العقوبات الإقتصادية، وروسيا بأمس الحاجة إلى إلغائها نظرًا لتراكم مشاكلها الإقتصادية.
سادسًا: إظهار فاعلية الجيل الجديد من الأسلحة التي تنتجها روسيا، و هي ثاني أكبر مصدر للأسلحة بعد الولايات المتحدة.
إلى هذه الأهداف يضيف محللون هدفًا آخر هو إحياء الفكرة التي وسمت الحرب الباردة بأن موسكو وواشنطن هما الشرطيان الكونيان الأساسيان.
كل هذه الأهداف حققتها روسيا دون أية كلفة إقتصادية باهظة أو في الأرواح، مع أن بعض المراقبين كان قد أشار إلى كلفة الحرب في سوريا التي تبلغ 3 -4 ملايين دولار يوميًا، وتراجع الدخل الوطني جراء تدني أسعار النفط، وهبوط سعر الروبل، ومفاعيل العقوبات الإقتصادية العالمية، وكساد الإقتصاد الروسي بصورة عامة، إلا أنه يستبعد هذا الأمر. قد يكون أخذ بعين الإعتبار لكنه لم يكن عاملًا حاسمًا. في الوقت نفسه يساهم الإنسحاب في تحسين العلاقات مع المملكة العربية السعودية. في الواقع إعتبرت المملكة على لسان وزير خارجيتها عادل الجبير الإنسحاب «خطوة إيجابية»، والذي أعرب عن أمله بأن يحمل الرئيس الأسد إلى تقديم التنازلات الضرورية للتوصل إلى المرحلة السياسية الإننقالية.
4 – داعش ما زال «حيا يرزق»
اللافت بكل وضوح أن ما أعلنته موسكو عن أن تدخلها في سوريا يهدف إلى القضاء على داعش كي لا تضطر إلى مقاتلته في شوارع موسكو لم يكن له أساس من الصحة، وإنما كان المستهدف الفعلي كل الأخطار المباشرة التي تهدد نظام الأسد، وفي مقدمها القوى المعارضة التي يدعمها الغرب والخليج العربي، فداعش ما زال حيًا يرزق، ويعيث في الأرض فسادًا. لقد خسر 25% من الأراضي التي كان يسيطر عليها، لكنه ما زال يحتفظ بقدرته على تهديد عواصم العالم، ويحتقظ بمواطىء قدم إمتدادًا من نيجيريا إلى أفغانستان.
5 – الأكراد الرقم الصعب في المعادلة الإقليمية والدولية
للأكراد في سوريا علاقات جيدة مع الولايات المتحدة و روسيا معًا. الأميركيون يدعمونهم لأنهم يقاتلون داعش، والروس لأن أبناء عمومتهم يتحرشون بتركيا. في المقابل أعلن الأسد أنه ينوي إستعادة سيطرته على سوريا بكاملها، ما يخلق وضعًا تجد فيه روسيا حليفين لها في مواجهة أحدهما الآخر.
6- للإنسحاب إنعكاسات إيجابية على محادثات فيينا
الإنسحاب سيضع ضغوطًا على الرئيس الأسد ويلوي ذراعه بعدما غدا أكثر تعنتًا في مواقفه بعد فشل المعارضة بإسقاطه ليكون في محادثات السلام أكثر مرونة والقبول بمشاركتها السلطة. ما من أحد يدري ما يدور في خلد بوتين الّا بوتين نفسه لكن يبدو إنه يريد فعلًا إعطاء السلام فرصة، أو على الأقل إعطاء زخم جديد لمحادثات فيينا حاليًا بحيث تكون مثمرة أكثر من الجولات السابقة.
من هنا يفهم ترحيب وفد معارضة الرياض بالإنسحاب ووصفه كما نقل أعضاؤه إلى نائب وزير الخارجية الروسية ميخائيل بوغدانوف بأنها خطوة حكيمة وصحيحة.
يبقى أخيرًا الإشارة إلى أن هناك من يرى أن الإنسحاب ليس سوى ذرّ رماد في العيون، وسوف يستمر طالما أن الهدنة قائمة، وأن النظام غير مهدد من أي فصيل معارض، وفي هذه الأثناء سوف تعمد موسكو إلى تعزيز موقعها الجوي- البحري على المتوسط.
في جميع الأحوال يبدو أن بوتين قد إلتزم وحقق ما قاله في 11 تشرين الأول 2015: «إن هدفنا هو إستقرار الحكم الشرعي وخلق ظروف لتسوية سياسية.