التساؤلات التي استتبعَت المفاجأة السياسية الرئاسية للرئيس سعد الحريري كانت مركّزة حول مدى القدرة على إسقاط خيار النائب سليمان فرنجية الذي تمّ الترويج له على قاعدة إمّا فرنجية، وإمّا استمرار الفراغ والتآكل في هيكل الدولة وصولاً إلى سقوطه على الجميع، وذلك من أجل دفعِ الجميع لتقبّل الفكرة والتسليم بالأمر الواقع.
إسقاط أيّ مبادرة يستدعي البحث عن مدى توفّر الوسائل والإمكانات والتحالفات والظروف المحيطة المحلية والخارجية، وفي استعراض سريع يتبيّن الآتي:
أوّلاً، على المستوى الدولي، الغرب منشغل بهمومه، وآخرُها الإرهاب الذي هدّد عواصمه وروّعَها، وحتى قبل الموجة الإرهابية بكثير لم تتردّد عواصم القرار بدعوة اللبنانيين إلى تدبُّر شؤونهم، لأنّ الأولوية الدولية في مكان آخر، مع حِرصها حصراً على الاستقرار في لبنان، ولكن من دون أن تجد نفسَها معنية بالجهة أو الجهات التي توفّر هذا الاستقرار، أكان عن طريق الشراكة الوطنية، أو «حزب الله» وحدَه، وبالتالي ما يهمّها اليوم هو إنهاء الفراغ الرئاسي، بمعزل عن هوية الرئيس العتيد، وذلك في ظلّ خشيتها من أن ينسحب عدم الاستقرار السياسي إلى عدم استقرار أمني. ولكن هذا لا يعني رفعَ المسؤولية عن القوى السيادية التي لم تنجَح بإبقاء لبنان أو جعلِه قضية دولية.
ثانياً، على المستوى الإيراني، لن ترفض طهران انتخاب شخصية لا يُفترَض انتخابها إلّا في ظلّ وصاية إيرانية كاملة على لبنان.
ثالثاً، على المستوى السعودي، يتركّز الهمّ بين اليمن وسوريا في ظلّ قناعة أنّ مصير لبنان يتقرّر بعد الانتهاء من الأزمة السورية، ويتحدّد وفق ميزان القوى الذي سترسو عليه التسوية السورية، وفي الانتظار تبقى الأولوية للاستقرار، خصوصاً أنّ انشغال «حزب الله» في سوريا كفيل بالحفاظ على الستاتيكو في لبنان.
رابعاً، على المستوى المحلي، تبرز سبعة احتمالات:
الاحتمال الأوّل، أن يتبنّى الدكتور سمير جعجع ترشيحَ العماد ميشال عون، إنْ مِن أجل إيصاله أو إسقاط التسوية، ولكن لا يَبدو أنّ جعجع في هذا الوارد، لأنّ المعيار الذي وضَعه لانتخاب الرئيس سياسي لا شخصي، وبالتالي تَبديتُه لخيار عون إمّا تكون على أسُس وطنية أو لا تكون. وهذا المعيار يمثّل عنصر قوّة لجعجع ومصدرَ احترام لدى أخصامه حتى لو وصَلوا إلى الرئاسة بتواطؤ من حليفه.
الاحتمال الثاني أن يسمّي جعجع وعون مرشّحَ تسوية لا يشكّل استفزازاً لأحد، في خطوةٍ تشكّل إرباكاً للحريري من منطلق أنّ تسمية فرنجية جاءت من شخصية سنّية، فيما تسمية المرشّح الآخر تكون من أكبر قوّتين مسيحيتيين، ولكنْ لا يبدو أنّ هذا الاحتمال وارد لسببين: لأنّ عون لن يتخلّى عن ترشيحه، ولأنّ «حزب الله» سيعاتبه على قطعِه الطريق على أوثق حليف له.
الاحتمال الثالث، أن يلجَأ جعجع وعون إلى إسقاط خيار فرنجية في الشارع والذي يَعوقه الحِرص على تجنّب مواجهة مسيحية-مسيحية، كما علاقة عون بالحزب الذي سيكون صريحاً معه بأنّه لم يقصِّر في دعمه، وساهمَ إلى جانبه في تفريغ الرئاسة لأكثر من سَنة ونصف السنة، وبالتالي ليس باليد حيلة.
الاحتمال الرابع أن تقطع مكوّنات 14 آذار الحزبية والمستقلّة الطريق على الحريري من خلال عقدِ اجتماع موسّع تعلِن فيه رفضَها السير بخطوة استسلامية، الأمر غير الممكن، لأنّ التجربة دلّت إلى أنّ الحريري هو الوحيد القادر على توظيف 14 آذار ضد فلان وعلتان بالشكل الذي يراعي مصالحَه وأهدافه.
وفي هذا السياق لا يفترض رفع المسؤولية عن المكوّنات الأخرى التي لم تبنِ التحالفات التي تمكّنها في أوقات الضرورة من رفع البطاقة الحمراء في وجه الحريري أو كلّ مَن يخرج عن ثوابت 14 آذار.
الاحتمال الخامس أن تعلن «القوات» و«الكتائب» و«التيار الحر» رفضَها في مؤتمر صحافي مشترَك، لترشيح فرنجية، فيكون 3 أقطاب من الأربعة في بكركي رفضوا تزكية الرابع بينهم، الأمر الذي يُحرج الجميع، ولكنْ لا مؤشرات بعد إلى خطوة من هذا النوع.
الاحتمال السادس، أن يُصار إلى استنهاض الشارع السنّي وتنظيمه لحشر الحريري ودفعِه إلى التراجع، ولكن لا أفقَ لهذا الاحتمال اليوم على رغم أنّ قراره بتبنّي ترشيح فرنجية غير شعبي داخل البيئة السنّية، وذلك بسبب غياب الجبهة السنّية القادرة على توظيف غضَب الشارع في مواجهة قرار الحريري.
الاحتمال السابع أن يُصار إلى إسقاط التسوية من الباب السعودي ربطاً بثلاثة أسباب:
السبب الأوّل سياسي-وطني، بأنّ وصول فرنجية يشكّل انقلاباً على المشروع السيادي.
السبب الثاني سياسي-مسيحي، بأنّ تسمية فرنجية حصَلت بطريقة فوقية ولم تراعِ أسسَ الشراكة الوطنية.
السبب الثالث سياسي-سعودي، بأنّ المملكة تبَدّي صداقاتها المسيحية على الإسلامية في تعبير عن إيمانها بالتجربة اللبنانية الميثاقية، وفي رسالة إلى الغرب تعَبّر عن سياسة الانفتاح التي تتبعها.
ويبدو أنّ الاحتمال السعودي الأخير، من ضمن الاحتمالات المحلّية المطروحة، هو الأكثر ترجيحاً، ولكن من دون إغفال أنّ الحريري اتّعَظ من خطئه مع عون، ولا بدّ أن يكون استحصل على الضوء الأخضر السعودي قبل إطلاق مبادرته الشخصية، وبالتالي فرَص تعطيل التسوية الاستسلامية من الباب السعودي لا تبدو كبيرة.
ولكنّ هذا لا يعني الاستسلام للأمر الواقع، فعلى رغم الأولويات الدولية المعلومة، والهوامش الداخلية المحدودة، فإنّ إسقاط المبادرة الحريرية يبقى ممكناً من خلال تفعيل القنوات الخارجية والداخلية، وإطلاق حركة اعتراضية واسعة ودينامية وطنية تتقاطع فيها كلّ القوى على إسقاط خيار فرنجية، والتلويح بخيارات جذرية من قبيل إنهاء العلاقة مع «المستقبل»، فضلاً عن أنّ مَن نجح بإسقاط اتّفاق أميركي-سوري في العام 1988 لن يعجز، إذا قصَد، عن إسقاط مبادرة شخصية، إنّما الأساس أن «ينوجِد» القرار لدى جعجع وعون وسامي الجميّل لإسقط هذه المبادرة. ولكنّ السؤال الأساس يبقى؛ ماذا لو أقِرّت التسوية، وهل من خطة مواجهة وطنية لقلبِ الطاولة؟ فللبحث صلة.