Site icon IMLebanon

70 عاماً والجيش يُكرّس بالدم عقيدة حياد لبنان

لا تجزِئة أو خصخصة أو شراكة في السيادة والوطن، بل مسيرة عطاء وتضحية ووفاء تتعمّد بدماء شهداء الجيش اللبناني الذي لم يبخل يوماً في الشهادة على رغم تعطيل القرار السياسي لدوره في مراحل سابقة، لكنّ ساعة الإنصاف والحقّ قدّ دقت بعد 70 عاماً على تأسيس هذا الجيش الوطني، الذي يُعتبر من أنزه جيوش العالم، حتّى بات لبنان سنة 2015 محيّداً عن صراعات المنطقة، محصَّناً من الفتنة السنّية- الشيعية التي تجتاح العالم العربي، بفعل جيش يزيد عدده عن 50 ألف عنصر، يتسلّحون بإيمان عميق بوطن الارز القائم على الإزدهار والريادة والعَيْش المشترَك.

70 عاماً مرّت على تأسيس لبنان بقيادة اللواء فؤاد شهاب، الجيش. وبعد 70 عاماً يقف اللبناني متأمِّلاً المشهد الكبير من حوله، فيرى أنّ وطنه بخير على رغم أنّه ليس في أفضل أحواله، وهو يدرك جيداً أنّ للإستقرار الذي نعيشه وسط غليان الشرق الأوسط، عنواناً واحداً، هو جيشنا الموحَّد العابر للطوائف والمذاهب والذي بات قادراً على حسم أيّ معركة يدخلها.

تدور حرب كبرى في عواصم ومدن وأرياف وأزقة البلدان العربية التي بنت في مراحل سابقة أشرسَ الجيوش وأقواها عدةً وعدداً، في وقت كانت السياسة تقبض على قرار الجيش اللبناني وتشلّ حركته، حتى وصلت الى تفتيته في مرحلة من المراحل، لكنّ الجيش اللبناني صمَد لأنّه يملك الوصفة السحريّة لأمراض الوطن الصغير.

إذ إنّه حامي النظام الديموقراطي والمؤسسات في وقت كانت الجيوش العربية أداة للحكم والسلطة والديكتاتور، والجيش اللبناني من جهة أخرى هو من الشعب ولكلّ الشعب، بينما الجيوش الأخرى كانت السلطة التي أرهبت شعوبها.

قد تكون هذه هي الأسباب المهمة لصمود الجيش اللبناني ونجاحه، لكنّ السببَ الأول يبقى رسالته المقدّسة، أيْ الحفاظ على لبنان بجناحَيْه المسلم والمسيحي، وسط تقاتل المسلمين على امتداد جغرافيا الشرق، وتهجير المسيحيين والأقليات الأخرى.

بعد 70 عاماً، أسقط الجيش اللبناني كلّ المحاولات السابقة التي صمّمت على حرفه عن مساره وتغيير عقيدته وأخذه نحو مشاريع شرق أوسطية أو عروبية أو عالمية، وقد سطّر بدماء شهدائه خلال الأعوام الماضية، وتحديداً منذ آب الماضي بدءاً من عرسال مروراً بطرابلس والجنوب وصولاً إلى كلّ حدود لبنان، عقيدة يحملها كلّ لبناني وطني مستقلّ، تتمثّل في حياد لبنان عن نزاعات المنطقة وعدم الانجرار الى صراعات لا تعنيه، وعدم التنسيق مع جيوش أو جهات تشكل استفزازاً لمكوّنات لبنانية، وحماية استقلال لبنان وسيادته.

بعد 70 عاماً، لم يعد الجيش الذي أسَّسه شهاب عام 1945 وخاض المواجهة مع اسرائيل عام 1948 ووصل الى الجليل، جيشاً وظيفته الوحيدة أن يكون شرطياً يحمي مؤسسات الدولة، مثلما فعل في ثورة 1958 من دون لجم الشارع بين اللبنانيين، أو جيشاً معرّضاً للانشقاق كما حصل بداية الحرب الاهلية، بل وضع اليد على الزناد وأطلق الرصاصة على الفتنة السنّية- الشيعية في الداخل، وأدار مدافعه على الارهاب القادم من سوريا، مقدماً الشهيد تلوَ الآخر لكي لا تتكرّر تجارب الماضي المريرة وتعبث «البواريد» الآتية من سوريا بمصير لبنان. فقد أخرج الجيش من الثكنات الى المتاريس للمواجهة، ليصبح لبنان البلد العربي الوحيد الذي هزم «داعش» ومنع تمدّدها في حين إنهار الجيش العراقي خلال ساعات أمامها،

ولم يستطع الجيش السوري هزيمتها.

لم يعد للمساكنة مع الارهاب والطامعين بلبنان مكان في بلد الأرز، فقد ضرب الجيش بيد من حديد، وحيّد خياراته عن السياسة وتشعّباتها، وأخذ الغطاء الكامل من السلطة السياسية، واضعاً الجميع أمام مسؤولياتهم، مستفيداً من القرار الدولي بتحييد لبنان، وهو قرار فقده في فترات سابقة.

بعد 70 عاماً لم يعد لبنان وجيشه يقبلان بـ»اتفاق قاهرة» (1969) جديد، يقهر الشعب، ويتخلّى بموجبه عن سيادته. فهناك تحدّيات جمّة وبؤر أمنية ومشكلات تحتاج الى قرار لبناني جامع مثل سلاح «حزب الله»، لكنه في المقابل يستكمل مهامَه ولا يقف عند مشكلة قائلاً: «لا اريد العمل قبل حلِّها»، بل إنّ الآلة العسكرية تكمل عملها وتتسلَّح من الهبات المقدَّمة من أميركا والسعودية وهذا تطوّر لافت، حيث إنّ الثقة الدولية بالجيش زادت وبات المثال الأول بالنسبة للمجتمع الدولي في مكافحة الإرهاب والتصدّي له.

سقطت كلّ مقولات إنحياز الجيش الى فئة دون أخرى بفعل حكمة قيادته، فالجيش كما تؤكد قيادته، صورة عن لبنان، لكنّ لبنان الجميل، لبنان المهرجانات والأفراح وثقافة الحياة والتضحية والوفاء في سبيل الوطن فقط، وليس خدمة لمشاريع خارجية مشبوهة، وبعد 70 عاماً نجح الجيش في توحيد اللبنانيين حوله فسلّموا بدوره المحوري، وعلى رغم الاختلاف في السياسة والملفات الداخلية، يتفق الجميع على أهمية الجيش.

لا مجالَ لبناء دولة قوية وقادرة وعادلة من دون المؤسسة الأم التي هي الركن الأول وأساس القلعة اللبنانية الصامدة في وجه الأطماع الخارجية، ومهما صال اللبنانيون وجالوا في أصقاع العالم وركبوا أمواج المشاريع الخارجية، إلّا أنهم في النهاية سيعودون الى السفينة اللبنانية ليُبحروا سوياً في رحلة العيش المشترَك، ويكونوا كأجدادهم الفينيقيين، أسياد البحار، ونسور الجبال، والسباقين الى بناء المدن الحضارية من جبيل وجونية وصور وبيروت وصيدا وزحلة.