حطّ جون كيري في بيروت… طار جون كيري إلى باريس. زيارة الساعات الخمس، لم تملأ فراغ كرسيّ الرئاسة، ولم تنتج حلاً لأزمة النازحين السوريين إلى لبنان، كذلك أيضاً لن تضيف إلى الوضع الأمني شيئاً. ببساطة، إن الزائر الأميركي الكبير، لم يحمل في يده «هديّة أميركيّة» من طراز المبادرات ـ المفاجآت.
هو أكّد المؤكّد ورحَل… والمسؤولون اللبنانيون أصلاً لا ينتظرون أن «يدسّ كيري دعوته لانتخاب رئيس جديد للجمهورية»، بحسب ما ردّد أكثر من مرّة، من دون ضغط سياسي حقيقي. وهم أيضاً لا يعوّلون كثيراً على فتح الأميركيين جيوبهم لمساعدة النازحين، على قاعدة «أنّنا جرّبناهم في السابق».
إذاً، لم تكن الزيارة أكثر من «زيارة رفع العتب» هندستها على عَجَل السفارة الأميركية في بيروت ممثلةً بدايفيد هيل «من الجلدة إلى الجلدة»، بمن فيها المضيفون والصحافيون والصحافيات وحتى الأسئلة والأجوبة!
قد تختلف النظرة إلى الزيارة بين «8 و14 آذار»، إلا أنهما يتفقان على عدم جدواها بما أنّها لا تحمل جديداً. يدللون على أن وزير الخارجية الأميركية حمل كلمة سرّ واحدة في جعبته هي: «حافظوا على الاستقرار»، ويحصون عدد كلمة «استقرار» في تصريحاته. ما يعني، بالنسبة لهم، أن أميركا ما زالت لا تريد من لبنان إلا أن يبقى بمأمن عن الأزمة السوريّة وتداعياتها.
وبذلك يدرك هؤلاء أن رحلة رجل «العمّ سام» إلى «بلاد الأرز» لن تغني ولن تسمن من الفراغ، بل على العكس. إذ أن بعض المقرّبين من «8 آذار» يعتبرون أن «رجل العمّ سام» يريد التأكيد على ضبط الواقع الأمني والحفاظ على الاستقرار الداخلي، بعد أن سلّمت أميركا أنّ لبنان وقَع في أزمة الفراغ الرئاسية ولا خطّة للإنقاذ في المدى المنظور.
وفَهم الجميع من كيري أنه في غياب الأمل بانتخاب رئيس جديد، لا بدّ من المحافظة على ما تبقّى من «ماء وجه» المؤسسات (مجلس الوزراء والنوّاب)، وعدم تعطيلها باجتهادات دستوريّة وسياسيّة. كان واضحاً أنّ المسؤول الأميركي أراد ضخّ الدعم في عروق المؤسسات، لا سيّما مجلس الوزراء، قاصداً عدم الجنوح نحو مكاتب الحلفاء والاكتفاء بجولة على الرئيسين نبيه بري وتمّام سلام والبطريرك الماروني.
وبالتالي، فإن أهداف أميركا واضحة: المحافظة على «الستاتيكو» الحالي بحفظ معالم الدولة من خلال حماية الاستقرار والمؤسسات الدستورية المتبقيّة. ومن هنا، يؤكد المسؤولون في الجهتين ألا تغيير سيطرأ على وضع بيروت، هي ليست أولوية على برنامج الأميركيين. البوصلة ما زالت موجّهة نحو سوريا، وإن كان هؤلاء لا يقيمون وزناً لربط كيري ساعة زيارته إلى لبنان على التوقيت السوري لإنهاء الانتخابات السوريّة، معتبرين أنها ليست سوى صدفة.
كما أنهم يستبعدون أن يكون وزير الخارجيّة حمل من بلاده «رسائل سوريّة»، لافتين الانتباه إلى أن الزيارة أهدافها «لبنانية محليّة محض» وتأتي في لحظة ضبابية إقليمية تتقن خلالها الولايات المتحدة الأميركية مهمّة «اللاحسم» على جميع الأصعدة.
في المحصلة، لن تعدو الزيارة في أذهان اللبنانيين إلا صوراً أرشيفيّة لكيري مصافحاً بعض المسؤولين، فيما بقيت الغصة في قلوب «14 آذار» التي كانت ننتظر من حليفها الأميركي جرعة دعم زائدة تقلب كفّة الميزان لصالحها، ولو بشكل. «ثوّار الأرز» لا يجاهرون بـ«إعراض كيري» عن اللقاء، بل يبدو كأنهم زاهدون بالأمر، مكتفين أن أميركا جيّرت دعمها إلى الدولة ومؤسساتها.
وإذا كانت «14 آذار» لا تملك قراءة موحدة للزيارة وتركت التحليل عرضة لـ«الاجتهادات الخاصة» بكوادرها ومسؤوليها، فإن «8 آذار»، لا سيّما «حزب الله»، يرفض الإعلان عن رأيه، مجاهداً لإبقائه طيّ الكتمان. في حين أن أوساطاً مطلّة على موقف «الحزب» تؤكّد أنه في مواقف وزير الخارجيّة الأميركية «إيجابيّة بين السطور».
تلفت هذه الأوساط الانتباه إلى أن خطاب كيري في بيروت كان مغايراً للخطاب الأميركي المعتاد، إذ أنه لم ينبس ببنت شفّة عن تصنيف «حزب الله» كـ«حزب إرهابي». هذه اللغة الجديدة يُفترض أن يتلقاها «الحزب» بالكثير من الإيجابيّة، وإن لم يعلن موقفه.
في حين أنّ هذه الإيجابية لم تكلّل تصريح كيري من ألفه إلى يائه، بل حاول الرجل غسل يدي بلاده مما يحصل في سوريا وتحميل المسؤولية إلى روسيا وسوريا و«حزب الله»، ولكن هذه النظرة الأميركية، بالنسبة للأوساط نفسها، تحمل في طيّاتها إيجابيّة أيضاً من خلال الاعتراف بدور «الحزب» وقدرته على التأثير، وبالتالي الشراكة في اتخاذ القرار والحلّ، بالنسبة للأوساط نفسها.
في المقابل، فإن «14 آذار» تحاول تغيير هذا الوجه الإيجابي في كلام كيري، معتبرةً أنه «اتهام مباشر لحزب الله بتدخّله بالأزمة السوريّة وتكبير حجر النظام»، مستخلصةً «أن اللبنانيين، بنتيجة الأمر، ليسوا عناصر مؤثرة بالأزمة أو الأوضاع الإقليمية… فنحن لسنا سوى نتيجة لا أكثر».