عشر سنوات من عمر «8 و14 آذار» كافية وفائضة عن الحاجة، لنقول: «لم نعد ننتظر شيئاً» منهما… عشر سنوات عجاف، تحوّل فيها لبنان إلى مزار للخوف والقلق ومكان إقامة للعجز… عشر سنوات من الدماء والاغتيالات والخيانات المتبادلة، تحوّل فيها لبنان إلى بلد غائب، وشعبه يتفاءل، إما بالهجرة منه، وإما بالغلبة المذهبية المستحيلة.
هل أحد ينتظر شيئاً؟
عشر سنوات، يحق لبعض من لا ينتسب إلى هذا ولا إلى ذاك، بسبب التزامه بالوطن، أن يسأل: ماذا كانت نتيجة هذه المسيرة المنحدرة إلى القعر؟ أي إنجازٍ يسجل لكم؟ أي اقتصاد بلغتم؟ أي كيان حفظتم وحافظتم؟ لماذا احتل الفراغ البلد واستعمرته الفوضى وكالت له المذهبية أياماً كالحة؟
لا أحد ينتظر شيئاً، لأن كل واحد عرف كل شيء. لم يعد البلد سراً على أحد. انه مكشوف وقراءته سهلة، والأسهل أن لكل فريق قراءته واجتهاده وفتاويه… جمهورية الفراغ محكومة بقوى فارغة، وتملك موهبة الثرثرة والتبرير ولغة الاقتناص و «النأي بالنفس»، عما هو حقيقي.
لا أحد ينتظر من «8 و14 آذار» أن تتبدل أحوالهما. وعندما نقول «8 و14 آذار»، لا نقصد القيادات فقط، بل كل من آمن واعتقد والتزم وتبنى وكافح ونافح في معسكره.
عشر سنوات، اندلعت بداياتها بعد عملية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وبعد زيَّاح القتل الذي طال نخبة من رجالات وقيادات محسوبة على «14 آذار». وبين فريق «شكراً سوريا» وفريق مضاد «سوريا برّا برّا»، انقسم لبنان وضاعت دماء ومعارك وانتصارات. وعدنا، كأننا ما زلنا في البداية.
لا نتوخى الشماتة أو ظلم فريق أو دعم فريق على فريق. كان مطلب الحقيقة جامعاً، ولكن طلاب الحقيقة اختلفوا على الطريق: كيف؟ مَن؟ أي محكمة؟ لبنانية أو دولية؟ وفيما كان فريق «14 آذار» يعلي الصوت ويدق النفير لإخراج سوريا، بعد اتهامها بالارتكاب، وبعد فتح ملفات إقامتها وسوء إدارتها وسطوة تسلطها على الحياة السياسية في لبنان، رأى فريق «8 آذار»، أن من واجبه أن يشكر سوريا، ويدفع عنها التنكيل الخطابي والإعلامي والسياسي، حفاظاً على كرامة حليف حقيقي، دافع واحتضن وحمى المقاومة، في عز محنها وحروبها ومقاومتها للاحتلال الإسرائيلي للبنان، حتى التحرير.
تستطيع قوى «14 آذار» أن تذكر بسلسلة من الإنجازات، التي كانت مستحيلة، قبل الاغتيال المشؤوم. تستطيع أن تنسب لنفسها إنجاز الانسحاب السوري، أكثر من نسبته للقرارات الدولية. كما يحق لها أن تتذكر «فضائلها» على الجنرال العائد من المنفى بعد الاغتيال، وعلى «الحكيم» المحكوم قضائياً، عبر استصدار عفو خاص، مرَّ بشبه إجماع في المجلس النيابي.
وسجلت قوى «14 آذار» مكسباً، حين استطاعت تهريب إنشاء المحكمة الخاصة بلبنان، في ليل الحكومة المبتورة، التي انسحب منها وزراء «8 آذار»، ونجحت في «بدعة» إقصاء الرئيس إميل لحود الممدد له، وتمرير القرارات من دون الحاجة إلى توقيعه، والعالم المنحاز لقوى «14 آذار» وافق على ذلك، برغم معرفته بلا دستورية قرار الحكومة.
كل تلك الإنجازات، ماذا تبقى منها على مدار السنوات التي تلت الاندفاعة الأولى؟ المطالبة بإقرار المحكمة الخاصة وارتكاب اعتقال الضباط الأربعة، انتهى إلى المزيد من الانقسام بين اللبنانيين. وعندما تكون قاعدة الانقسام مذهبية، لا يرجى شفاء أو لأم.
المحكمة صارت موضوع شقاق وخلاف. هي كذلك تحمل بذرة الانقسام حولها. خروج الضباط الأربعة من السجن من دون أن يُلوَّثوا بتهمة القتل، أثار شكوكاً عميقة حول أصل «المعلومات» وفرعها الداخلي.
«حزب الله»، العمود الفقري لقوى «8 آذار»، كان راغباً بتقليل الخسائر، وباحثاً عمن يقيه عبء الفراغ السوري. اندفع بعد «الحلف الرباعي» لحماية ظهره في الحكومة التي شارك فيها، بعدما قصر مشاركته على المجلس النيابي. تخوَّف من ثقوب تتسلل منها قرارات وسياسات، كانت ملجومة ومكتومة زمن الوصاية السورية. غير أن «الحلف الرباعي» الذي استبعد عون، تحجيماً لموجة «التسونامي» المذهلة، انتهى سريعاً. سقط «التحالف» داخل حكومة «التحالف الرباعي». أسقطته المواقف من المحكمة. يومها، خسرت الحكومة شرعيتها الميثاقية (بخروج الوزراء الشيعة و…) فيما تحصّن رئيسها فؤاد السنيورة بالشرعية الدستورية. ازداد البلد انشطاراً. «مليونيتان» (عدد مبالغ فيه جداً) افترشتا الوسط التجاري في قلب بيروت، فمات القلب، وباتت «سوليدير» شيئاً من الربع الخالي، تستدعي «قفا نبكِ».
لائحة من الأخطاء السياسية التي ارتكبتها «14 آذار»، لعل أفدحها، طرح سلاح «حزب الله» كمادة ملتهبة، يصعب تصديق معقوليتها، لانتفاء المرمى وامتناع الهدف، القاضي إما بسحب السلاح أو تدجينه أو إلحاقه بالدولة، بحجة السيادة و.. (هذه الدولة، من يصدق أنها قادرة على حماية لبنان؟).
تخيلت قوى «14 آذار» أنها قوية بما فيه الكفاية، فقررت استثمار الزمن والقوة. فقد كانت الخريطة السياسية تتيح لفريق «14 آذار»، خوض معاركها ومعارك الآخرين في الداخل.
انطلقت هذه الترسيمة من وقائع دامغة، تحصنت بها قوى «14 آذار»:
أولاً: اعتبر هذا الفريق انه مستهدف عملياً من قبل النظام السوري، وأن قراراً صدر باغتيال قادته ورموزه، وقام بتنفيذه وهو مستمر فيه، فعدد المغدورين إلى ازدياد، ولا يمكن، في هذه الأحوال، الاطمئنان إلى «الشريك الشيعي»، لأنه والنظام السوري حليفان.
ثانياً: تأسيساً على هذه المقدمة، الموثقة بالوقائع الدامية، والأدلة السياسية الدامغة، بات من المنطقي والضروري تأمين حماية لهذا الفريق (جهاز أمني لبناني) وتأمين مظلة دولية، وهي في الأساس حاضرة، من خلال بوابتي السفارتين الفرنسية والأميركية، على أن تتوّج بقرارات صادرة عن مجلس الأمن، «تحمي لبنان». ولقد كان لفريق «14 آذار» ما أراده، أو، ما أرادوه له، فقام مجلس الأمن بـ «الواجب» وأكثر. ومثل هذه السياسة توسّع الفجوة بين حلفاء الأمس الاضطراريين.
ثالثاً: في ما بعد شعرت قوى «14 آذار» أنها «الأقوى»، ومَن مثلها؟ فهي لم تعد وحيدة. تألف فريق حماية دولية ورعاية أممية من قبل دول عظمى ودول ذات نفوذ: أميركا، فرنسا، بريطانيا، الجامعة العربية، السعودية، مصر و… وهي محميّة في الداخل، بجماهير تنتمي إلى السنة والدروز وعدد يُعتدّ به من المسيحيين.
في مواجهة هذا الاحتشاد، ظهر فريق «8 آذار» وكأنه في عزلة. وبدت الترسيمة التي تشكلت حوله، فارغة من عناصر القوة الدولية والإقليمية، لكنها قادرة على حماية نفسها بالسلاح المطلوب انتزاعه. كأن قوى «8 آذار» كانت تقول:
أولاً: صدر قرار دولي وأممي بتصفية سلاح المقاومة، عبرت عنه قرارات دولية جائرة واستعدادات إسرائيلية دائمة، وحملات تحريض إعلامية تستهدف سلاح المقاومة، وتغري «حزب الله» بحصته الشيعية الكبرى في النظام. واعتبرت قوى «8 آذار» أن الولايات المتحدة، حليفة إسرائيل في عدوانيتها، هي الشريك الأقوى لفريق «14 آذار». كأنها تقول: «حليفك قاتلي». ولقد حصلت المحاولة في عدوان تموز 2006. وعليه، فليس أمام «حزب الله»، غير التمسك بسلاحه، والدفاع عنه بالسلاح.
ثانياً: سوريا حليف معزول، وإيران حليف محرَج، إنما لا قطيعة ولا مراجعة، بل المزيد من الاستعداد لما هو أعظم.
ثالثاً: الاطمئنان إلى البنية الشيعية الحاضنة للسلاح والقضية.
واصطدمت الترسيمتان في حرب تموز، وخرجت المقاومة بانتصار، فيما تكبد فريق «14 آذار» خسارة رهاناته على تلك الحرب. الصورة التي ترسخت في ما بعد، كانت لكوندوليسا رايس على درج السرايا، تقابلها صورة الحشود في الضاحية، و «يا أشرف الناس».
ماذا بعد؟
خرج وليد جنبلاط من «14 آذار». وسطيته منحازة في رأي من رأى خروجه طعنة. لكن جنبلاط كان قد خرج بعد معركة خاسرة. لم تحقق قرارات الحكومة المبتورة ما كان يُرجى منها. فقرارات تمس سلاح المقاومة وأمنها، تستلزم حتماً الرد بالسلاح، دفاعاً عن السلاح. وكانت 8 أيار… ودخل لبنان عصفاً جديداً.
ماذا بعد؟
أقفلت النوافذ والأبواب. سدّت المعابر بين الفريقين. صار البحث متصلاً فقط بحرف واحد، البحث عن لقاء السين بالسين. السعودية وسوريا. وكان ما كان. الدولة أفتت بالحل الدسم. انتخب رئيس جمهورية جديد بعد فراغ القصر لشهور، واختير سعد الحريري لتشكيل الحكومة.
لقاء «السينين» في بيروت ألزم الحريري بسلوك طريق دمشق، بعدما أسقطت عليها الاتهامات بأوصاف غير مسبوقة. قام سعد الحريري بمصافحة من يعتبره قاتل والده. لا هو يصدق يده المصافحة، ولا سوريا صدقت زيارته. حكومته ناءت بأثقال الشكوك. انقلبت سوريا على الحريري. ففيما هو على عتبة البيت الأبيض للقاء الرئيس الأميركي، سقطت حكومته، وكان سقوطها مدوّياً… المصافحة لم تؤمن المصالحة.
ماذا بعد من الخسائر؟
فريق «8 آذار» الذي انقلب على الحريري، بحجة أشرف ريفي ومَن معه، سقط في الكذبة البلقاء. الموضوع أبعد من ريفي وسواه. فما بعد «الربيع العربي» وإمكانيات عبوره الحدود السورية إلى قلبها، ليس كما قبله. ولهذا لم يعد أشرف ريفي منبوذاً، ولا نهاد المشنوق معلّقاً.
عشر سنوات، والخط البياني إلى تراجع. لا فريق «14 آذار» حقق «أحلامه» ومراميه وسياساته، ولا فريق «8 آذار» حقق شيئاً من «الإصلاح والتغيير» وحماية ظهر المقاومة (طرابلس نموذجاً. الأسير في صيدا نموذجاً. وهكذا دواليك، وصولاً إلى عرسال، ثم إلى قمم الجبال في السلسلة الشرقية). نحن على قاب قوسين من حرب، ولولا الحوار الذي استجد بإرادة خارجية وسماح دولي، لما استطاعت هذه الحكومة أن تستدرك الخطر الأعظم، فقامت بتفاهم ميداني، عله يرقى إلى أكثر من ذلك.
ماذا بعد؟
من حق اللبناني أن يسأل زعماءه الذين حكموه (ربما!) طيلة عشر سنوات، لماذا فشلتم في ما هو سهل وميسور… ان الفشل في القضايا الكبرى مفهوم. فهي قضايا أكبر من لبنان. وسلاح المقاومة، أقوى من أن تجد له حلاً دول إقليمية وهيئات دولية وحروب إسرائيلية. النجاح الوحيد الباهر يسجل للمقاومة الإسلامية، في صدها العدوان الإسرائيلي وتصديها للعدوان التكفيري.
من حق اللبناني أن يسأل: لماذا فشلتم في ملف الكهرباء؟ النصب والاحتيال والهدر والسرقة لغة يتقنها اللبنانيون. لماذا فشلتم في حل مشكلة النفايات. ولم تنجحوا إلا عندما تقاسمتم أرباحها، وتركتم لنا روائحها؟ لماذا لم تنجحوا في حل أزمة البحر ومنع الاعتداء على أملاك الدولة، واستعادة الشواطئ المحتلة، وإقرار سلسلة الرتب والرواتب و…
أيها السادة، لم تنجحوا في شيء. وأفضل عقاب لهذا الشعب الذي ما زال مؤمناً بزعاماتكم، أن تحكموه وتتحكّموا به إلى الأبد. إنهم يستحقون هذا العقاب.