لم يستطع تصريح تريزا ماي عن خريطة طريق تنفيذ القرار الشعبي بالخروج من الإتحاد الأوروبي، ازالة الغموض الذي يلفّ الأسواق حول مصير العلاقة الإقتصادية بين بريطانيا وأوروبا. هذا الغموض قد يُكلّف بريطانيا خسائر إقتصادية بقيمة ٨٠ مليار دولار أميركي سنويا.
منذ الإستفتاء الشعبي في بريطانيا حول خروجها من الإتحاد الأوروبي والأسواق تعيش حالة من الغموض فيما يخصّ مُستقبل العلاقة الإقتصادية بين الطرفين. وإنتظرت الأسواق سبعة أشهر لمعرفة خطة الطريق التي كانت تنتظرها من خلال تصريح رئيسة وزراء بريطانيا تريزا ماي.
إلا أن هذه الأخيرة لم تستطع أن تمحو هذا الغموض، لا بل على العكس أعطت صورة سوداء لما قد تكون عليه العلاقات الإقتصادية بين بريطانيا والإتحاد الأوروبي.
أهداف خطة الطريق التي أعطتها ماي للخروج من الإتحاد لا توحي بأية علاقات إقتصادية مُميّزة خصوصًا مع إستخدامها لعبارة «بريطانيا العالمية» (A global Britain) والتي تمّ ذكرها أكثر من ١٥ مرّة في الخطاب.
وهذا ما يجعل من الخروج عملية صعبة مع تداعيات غير محمودة. والأصعب في الأمر أن ماي في حدّ ذاتها كانت ضدّ الخروج من الإتحاد حين كانت وزيرة الداخلية في حكومة كاميرون، خوفًا من هروب الشركات. وبالتالي فإن تصريحها يُجسّد موقف حزب المُحافظين الذي تمّ إتخاذه في العام ٢٠١٥.
ماي تُريد إتفاق تبادل حرّ مع الإتحاد الأوروبي لكن من دون أن تكون عضوًا في الإتحاد. وهذا الأمر شبه مُستحيل لأن حرية التبادل محصورة بالأعضاء فقط كما أن العلاقات التجارية مع النروج والتي تُمثّل أفضل علاقات تجارية مع بلد غير عضو في الإتحاد، تحكمها قيود. فكيف للإتحاد أن يُعطي بريطانيا أكثر مما أعطى للنروج؟
صعوبة هذا الأمر عبّرت عنه ماي بقولها «الأفضل عدم وجود إتفاق من وجود إتفاق سيء» مُهدّدة بأن بريطانيا قد تفرض ضرائب تنافسية بهدف جذب الشركات.
المُشكلة في خطّة ماي أنها تُريد إعادة النظر في التعرفة الجمركية من دون الأخذ بالإعتبار التعرفة الموجودة بين الإتحاد وباقي الدول (وهنا تقصد بالتحديد النروج).
وهنا تظهر صعوبة التطبيق لأن هذا الأمر يعني أن على بريطانيا إعادة النظر في التعرفة الجمركية مع كل بلدان العالم للتأكد من عدم وجود إتفاقات جمركية تمنع الإتفاق مع أوروبا. وهنا يكمن السؤال إذا ما كان هذا الأمر مُمكنا في الفترة المُحدّدة في ميثاق الإتحاد
والذي ينصّ على سنتين بعد إبلاغ الإتحاد رسميًا بقرار الخروج منه.
أيضا تُطالب بريطانيا بأن تكون هناك قطاعات (مثل قطاع السيارات) معفية بالكامل من الرسوم الجمركية، وهذا الأمر غير موجود مع أي بلد أخر. وقد عبّرت أنجيلا مركل عن رفضها لأوروبا «a la carte» حيث تختار بريطانيا ما يُناسبها وترفض ما لا يُناسبها. أضف إلى ذلك أن وجود مثل هذه الإتفاقات يتعارض مع قواعد منظمة التجارة العالمية.
أحد أهمّ الأسباب التي أدّت إلى الخروج من الإتحاد الأوروبي كان الهجرة إلى بريطانيا والتي أدّت بحسب البريطانيين إلى خسارة آلاف العمّال البريطانيين لوظائفهم. وبالتالي من المُتوقّع أن يتمّ التشديد على الهجرة كما وطرد الأجانب غير المُستوفين للشروط البريطانية. وهذا الأمر سيضع العديد من القطاعات في مأزق وعلى رأسها القطاع العقاري الذي يُظهر حاجة مُلحّة لليد العاملة الأجنبية (خصوصًا من أوروبا الشرقية).
إذا طالبت ماي بأن تأخذ عملية الخروج الوقت اللازم لتفادي أي تداعيات عشوائية مُتخوفة من شروط عقابية على بريطانيا نتيجة قرارها، إلا أن الواقع هو أكثر صعوبة مع ضغط مُتزايد من المحافظين البريطانيين كما وألمانيا وفرنسا بإتجاه خروج سريع مما سيُصعّب المفاوضات أكثر.
المُشكلة أنه في بلد مثل بريطانيا تمّت فيه خصخصة العديد من القطاعات، أصبح القطاع الخاص هو من يُقرر بالنموذج الإقتصادي وذلك بالرغم من الإجراءات التي قد تتخذها الحكومة البريطانية. وهنا تبرز مخاوف القطاع الخاص من خلال الإجراءات التي بدأت بعض الشركات بتفيذها مثل مصرف أتش أس بي سي (HSBC) الذي صّرح أنه سينقل ألف وظيفة من بريطانيا إلى باريس.
كما أن العديد من الشركات صرّحت بأنها ستنتقل من لندن إلى برلين نظرًا إلى أن إختيارها للندن في الأساس كان نابعًا من منطلق قوانينها المرنة، قربها الجغرافي من السوق الأوروبي (٤٨٠ مليون نسمة) والتبادل التجاري الحر مع هذه السوق. إلا أنه اليوم ومع إعادة فرض رسوم جمركية، فقدت لندن ميزتها بأنها الخيار الأول للشركات وبالتالي أصبحت برلين ذات جاذبية أعلى.
وإذ صرّحت ماي أن لندن ستبقى عاصمة الأسواق المالية، إلا أن الواقع على الأرض قد يتغيّر من ناحية أن ألمانيا وخصوصًا فرانكفورت هي المُستفيدة الأولى من خروج بريطانيا. ففي خطوة لافتة إتخذ الإتحاد قرارًا بإعادة المُقاصة باليورو التي كانت موجودة في بريطانيا إلى أوروبا مما يعني صفعة قوية للأسواق المالية في بريطانيا.
كل هذا للقول أن التداعيات على الاقتصاد البريطاني ستكون كارثية على عدّة أصعدة:
أولًا على صعيد الشركات: العديد منها سيترك بريطانيا أو أقلّه سيُخفّف من وجوده هناك مما يعني أن مساهمة هذه الشركات في الناتج المحلّي الإجمالي ستقلّ بنسبة ملحوظة.
ثانيًا على صعيد سوق العمل: من المُتوقع أن تزداد عملية صرف العُمّال البريطانيين نتيجة هروب الشركات من بريطانيا خاصة أن بريطانيا ستُعلّق العمل بإتفاقية «حرية تجوّل العُمّال في أوروبا» والتي كانت قد وقعتها. وبالتالي فإن الإستهلاك سيقلّ ومعه الناتج المحلّي الإجمالي.
ثالثًا، على صعيد القطاع العقاري: هذا القطاع سيكون من أكثر القطاعات تضررًا نتيجة خروج بريطانيا من الإتحاد خصوصًا أن تخلّي آلاف الشركات عن مراكزها سيزيد من العرض وبالتالي ستنخفض الأسعار إلى النصف خلال العامين المُقبلين.
وبما أن هذا القطاع المُتطوّر سينخفض، فإن الصناديق الإستثمارية في القطاعات العقارية ستشهد عملية سحب للأموال بشكل كبير سينعكس سلبًا على ملاءة هذا القطاع وبالتالي سيخلق أزمة سيولة هائلة لا يستطيع البنك المركزي البريطاني تحملّها وحده.
رابعا، على صعيد العملة البريطانية: من المُتوقع أن ينخفض سعر صرف الجنيه الإسترليني مقابل العملات الأخرى خصوصا الدولار الأميركي وذلك نتيجة عاملين أساسيين: الأول كنتيجة للمضاربة في السوق وهذا ما بدأنا نلحظه مع وصول الجنيه الإسترليني إلى ما دون الـ ١.٢ دولار أميركي، والثاني كنتيجة لإنخفاض الناتج المحلّي الإجمالي والذي سينعكس في قيمة الصرف.
كل هذا للقول أن الناتج المحلّي البريطاني سينخفض بنسبة ٥.٤ إلى ٩.٥٪ خلال خمسة عشر عامًا مُسجّلًا خسارة سنوية بقيمة ٨٠ مليار دولار أميركي. يبقى القول أن حماقة السياسيين أوصلت بريطانيا إلى هذا الأمر علّ لبنان ينجو من التداعيات السلبية التي قد تُترّجم بإنخفاض تحاويل المُغتربين اللبنانيين في بريطانيا والذين قدّ يُرحّلون نتيجة التشدد في سياسة الهجرة.