بعد انقضاء نصف قرن، تطل على الشرق الأوسط ذكرى حرب الأيام الستة التي حفرت في الذاكرة العربية الجماعية جرحاً من الصعب شفاؤه. ثم جاءت حرب العبور عام 1973 لتحقق جزءاً من نصر عسكري لم يكن كافياً لاسترجاع صحراء سيناء المحتلة. لذلك اضطر الرئيس أنور السادات للقيام بعبور جوي أوصله الى إسرائيل، والى سلام مقيّد بشروط مناحيم بيغن (اتفاق كامب ديفيد 1979). وكانت مغامرة مكلفة استرد بواسطتها صحراء سيناء، ولكنه خسر حياته على أيدي أفراد من «الجماعة الإسلامية» بقيادة خالد الاسلامبولي.
الصحف الإسرائيلية وصفت حرب حزيران (يونيو) 1967 بأنها أقصر حرب في التاريخ، كونها حققت أكبر نصر لدولة فتيّة ولِدَت من رحم حرب 1948.
وكتب المؤرخ العسكري الإسرائيلي اوري ميلشتاين حول هذا الموضوع يقول: من الخطأ اعتبار المعارك المفتوحة على ثلاث جبهات، بأنها استمرت ستة أيام كاملة، في حين انتهت الحرب بالضربة القاضية التي حسمت مصير القوات الجوية المصرية خلال ثمانين دقيقة فقط!
وهو يرى أن من الخطأ أيضاً وصف «الهزيمة» الشاملة لثلاث دول عربية بأنها مجرد «نكسة» عابرة يمكن مداواة آلامها المبرحة بسرعة. ومثل هذه التعزية المرضية لن تحجب الحقيقة المرّة بأن حرب حزيران أنهت دور جمال عبدالناصر في مصر والمنطقة. تماماً مثلما شلـّت فاعلية حركة «القوميين العرب» الذين كانوا يعتبرون عبدالناصر البطل المتوّج المهيأ لإجهاض الحركة الصهيونية.
لهذا السبب وسواه، يرى المؤرخون المحايدون أن جمال عبدالناصر انتهى فور إعلان تنحيه عن الحكم واعترافه بمسؤوليته عن الهزيمة. ومع أنه تراجع عن قرار الاستقالة أمام رفض الجماهير، إلا أن لاءات مؤتمر الخرطوم لم تشفه من أرق الصدمة، ومن قلقه على مصير النظام الذي أدخله في المجهول. ويقدر هؤلاء المؤرخون أن أثر الهزيمة ضاعف من اعتلال مرض القلب الذي كان يعاني منه عبدالناصر… بحيث أن الأطباء السوفيات فشلوا في منع التدهور الذي قضى عليه خلال ثلاثة أعوام (توفي في 28 ايلول- سبتمبر – 1970).
السبب المباشر لاندلاع حرب حزيران لم يكن واضحاً تماماً: هل هو اعتراض عملي على إغلاق مضائق تيران ومنع السفن الإسرائيلية من المرور… أم هو احتجاج على طرد قوات الأمم المتحدة الموجودة في سيناء عقب الاتفاق الذي تم التوقيع عليه في نهاية الاعتداء الثلاثي (1956)؟
حديث اسحق رابين، رئيس هيئة الأركان في حينه، الى صحيفة إسرائيلية يوم 12 أيار (مايو) يشير الى سبب آخر أقل أهمية.
قال رابين: إذا لم تتوقف سورية عن دعم المقاومة الفلسطينية فإننا سنضطر الى غزو دمشق وإسقاط النظام القائم.
وكانت السلطة الحاكمة في وقتها تتألف من أربعة بعثيين هم: الرئيس نور الدين الأتاسي ويوسف زعين وصلاح جديد وحافظ الأسد. علماً أن الأسد، الذي كان يتولى منصب وزير الدفاع، ظل مشغولاً في استمالة كبار الضباط، بينما خصومه الثلاثة كانوا مشغولين باحتواء صراعات حزب البعث الحاكم.
بعد الإفراج عن الوثائق السرية الموجودة لدى الإدارة الأميركية، تبيّن أن تركيز حكومة لافي أشكول كان منصباً على إسقاط النظام الناصري فقط. وقد اهتمت تلك الحكومة بأخذ الضوء الأخضر من الرئيس الأميركي ليندون جونسون الذي استقبل وزير الخارجية ابا ايبان لهذه الغاية.
وحرص جونسون على ربط موافقته بسلسلة إجراءات لم تكن صريحة وواضحة بالنسبة الى جنرالات الجيش الاسرائيلي. وبسبب الغموض الذي غلّف الموافقة، اضطر اشكول لأن يرسل الى واشنطن رئيس منظمة «الموساد» مائير عميت. وقبل أن يلتقي الرئيس، قام عميت بزيارة صديقه وزير الدفاع روبرت ماكنمارا، الذي اعتذر منه عن عدم مشاركة الجنود الأميركيين بسبب تورط الولايات المتحدة في حرب فيتنام. عندئذ اكتفى عميت بتسجيل ثلاثة مطالب: 1- دعم ديبلوماسي في الأمم المتحدة. 2- التصدي لموسكو في حال قررت مساندة القاهرة بالمتطوعين. 3- تعويض سريع عن الأسلحة التي تحتاجها الترسانة الإسرائيلية.
قبل تحديد ساعة الصفر قرر أشكول الوقوف على آراء السياسيين والعسكريين بالنسبة الى اختيار وزير الدفاع. ورشحت غولدا مائير ييغال ألون، بينما نال موشيه دايان غالبية أصوات الجنرالات. وبما أن إسرائيل -كما يقول الكاتب المصري زهير كامل- «هي جيش له دولة… وليست دولة لها جيش»، لذلك عهد الى دايان بتحديد موعد الهجوم.
وبناء على نصائح الطيارين، قرر دايان اعتماد الساعة 7:45 من صباح الاثنين في 5 حزيران 1967. ثم علل قراره بالأسباب التالية: أولاً- لأن ضباب الصبح الذي يعطل الرؤية يكون قد تلاشى. ثانياً- لأن طياري سلاح الجو المصري يعودون من طلعاتهم الصباحية، ثم ينشغلون لمدة ساعة تقريباً في تناول وجباتهم. ثالثاً- لن يدخل ضباط القيادة الى مكاتبهم قبل التاسعة صباحاً، الأمر الذي يحرمهم عامل التنسيق ويقود الى البلبلة والفوضى.
وبين الوثائق السرية التي أفرِجَ عنها عقب انتهاء حرب الأيام الستة، وثيقة مهمة هي عبارة عن رسالة- برقية مشفرة كان الرئيس جمال عبدالناصر أرسلها الى الرئيس السوري نور الدين الأتاسي. وقد التقطها جهاز التنصت الإسرائيلي، وأحالها الى وزير الدفاع دايان الذي استخدمها مبرراً سياسياً لاجتياح مرتفعات الجولان.
جاء في نص البرقية المؤرخة في 8 حزيران، الاقتراح التالي:
«أعتقد بأن إسرائيل ستركز كل قواتها ضد سورية بهدف تدمير الجيش. وأرى أن هدفنا المشترك يلزمني أن أنصحك بالموافقة على إنهاء النزاع على الفور، وإبلاغ يو ثانت، أمين عام الأمم المتحدة، عن ذلك، حرصاً على سلامة جيش سورية العظيم.
لقد خسرنا هذه المعركة، وعسى أن يساعدنا الله في المستقبل.
أخوك: جمال عبدالناصر»
يزعم موشيه دايان في مذكراته أن برقية عبدالناصر بدلت الموقف حيال سورية، الأمر الذي دفعه الى اجتياح مرتفعات الجولان والاستيلاء على مزيد من الأراضي.
ومن أجل إطلاع رئيس الوزراء اشكول على الموقف الطارئ، أرسل له برقية يقول فيها:
«في رأيي أن رسالة عبدالناصر تفرض علينا الاستيلاء على أكبر مساحة من الخطوط العسكرية. بالأمس، لم أكن أتصور أن مصر وسورية يمكن أن تتعرضا للإنهيار، وتتوقفا عن استئناف حملة القتال. وعلى ضوء الواقع المستجد، أعتقد أن من المفيد استغلال الفرصة. إنه يوم عظيم. موشيه دايان»
بعد انقضاء سنة تقريباً، اعترف دايان لصحافي، يدعى رامي تل، انه فشل كوزير دفاع كونه تراجع عن موقفه أمام الحملة التي شنها مواطنون يرغبون في إقامة مستوطنات فوق مرتفعات الجولان. وفسّر موقفه للصحافي بالقول: إن غاية الحرب كانت منع الدول المتاخمة لإسرائيل من مواصلة تهديد أمننا الوطني. وسورية لم تكن تمثل هذا التهديد.
واستغرب خصوم دايان تبريره العمليات التي قام بها الجيش السوري الذي كان يمطر مستوطنات سهل الحولة بقنابل المدفعية المثبتة فوق المرتفعات.
ويُستنتَج من كلام دايان أن عملية احتلال هضبة الجولان لم تكن على قائمة المناطق المطروحة للغزو. ولكن برقية عبدالناصر التي شجعت نور الدين الأتاسي على وقف إطلاق النار، كانت من جهة أخرى بمثابة عامل مشجع للقيادة الإسرائيلية على احتلال الجولان.
وكان من الطبيعي أن تشهد الساحة السياسية السورية مزيداً من الخلافات بين المستندين الى قوة الحزب من أمثال الرئيس نور الدين الأتاسي وصلاح جديد ويوسف زعين… وبين وزير الدفاع حافظ الأسد المستند الى قوة الجيش.
وأدى هذا الصراع المحتدم الى اتهام الحزبيين بتسليم الجولان، الأمر الذي استغله حافظ الأسد في آخر عام 1970 لينتقم من خصومه في الحكم، ويزج في غياهب «سجن المزّة» نور الدين الأتاسي وصلاح جديد ويوسف زعين.
أما بالنسبة الى الأردن، فإن إسرائيل تعمدت إبلاغ الملك حسين نيتها عدم التورط في صدام مع قواته، وطمأنته في تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1966 الى أن الضفة الغربية والقدس الشرقية ستظلان في منأى عن الخطر.
وعلى رغم اطلاعه الواسع على أن الحرب المقبلة تستهدف مصر وعبدالناصر بالذات، إلا أنه رفض الوقوف على الحياد. لذلك انتقل الى القاهرة في آخر يوم من أيار (مايو) 1967 يصحبه رئيس الوزراء سعد جمعة ورئيس أركان الجيش اللواء عامر خماش، ليبرم مع الرئيس عبدالناصر معاهدة دفاع مشترك. وترتب عن تلك المعاهدة ضياع الضفة الغربية وقطاع غزة.
بعد مرور نصف قرن على تلك الحرب، تثبت الوثائق التاريخية أن احتلال هضبة الجولان والضفة الغربية لم يكن في حساب إسرائيل. كما تثبت أيضاً أن المستهدَف الأساسي كان جمال عبدالناصر، بطل القومية العربية.
وبعد توقيع اتفاقية «كامب ديفيد»، زعمت إسرائيل أن نتائج حرب 1967 بدّلت مسار مصر!