كلام في السياسة |
قد يكتب الكثير عن فظائع المحاكم الدولية، خصوصاً الخاصة منها. أولها التسييس، لمجرد أنها خاضعة لما يسمى شرعية دولية محكومة بقوة واشنطن. وثانيها إسقاطها سيادات الدول بما يخلّف جراحاً عميقة في وجدانات الشعوب وكراماتها.
وهي ما أسس في غالب الأحيان لانهيارات وانقسامات وتحقيق حسابات ومصالح، على حساب الدولة التي تنشأ المحكمة لها. هذا فضلاً عن تحول ضحايا الجرائم التي أقيمت المحكمة بسببها أصلاً، مجرد سلع تحت عنوان قتلها كل يوم وكل جلسة، ضماناً لتحقيق الهدف السياسي الكامن في رؤوس القوى الدولية القائمة خلف قرار الإنشاء والتسييس والمحاكمة والتسليع والقتل…
غير أن ما حصل في لبنان، وخصوصاً مع جريدة «الأخبار» أمس، يحمل تطورين قد يكونان غير مسبوقين.
التطور الأول، هو موقع الحقيقة في معادلة المحاكمة. ذلك أن هناك إشكالية كبيرة وتاريخية ودائمة حول العلاقة بين الحقيقة والعدالة. حتى أن قانونيين كباراً في العالم، جعلوا لمطالعاتهم الدفاعية أمام المحاكم، عنواناً شهيراً: نطلب الحق، لا الحقيقة. لأن آليات القضاء، حيثما كان وفي كل وقت، عرضة للزور والزيف والفساد. وبالتالي، يمكن لملف أن يصل إلى قوس، وهو قائم على التلفيق الكامل بحيث يُتهم بريء ويُجهّل مرتكب. وفي حالة كهذه يصير محامي الدفاع أمام معضلة: هل يعمل على البحث عن الحقيقة الكامنة خلف الملف المفبرك، بحيث يكشفها كاملة ويظهر المجرم الغائب عن المحكمة؟ أم يكتفي بدحض ما بني عليه اتهام موكله، بحيث يسقطه ويظهر بطلانه، ويكتفي بالتالي بحق المتهم الحاضر زوراً، بالبراءة والحرية، ولو من دون كشف الحقيقة الكاملة؟!
هكذا كانت الحقيقة دوماً أمام أقواس المحاكم، في علاقة إشكالية مع الحق. ليس حتمياً أن يترافقا أو يتطابقا. فكان شبه سائد وثابت، أن الحق يمكن أن يقوم، من دون الحقيقة. أو أن الحقيقة يمكن أن تكشف من دون إثبات الحق. لكن لم يحصل مرة من قبل في تاريخ العدالة، أن يكون «الحق على من قال الحقيقة»! أمس، بين تلك المدينة الهولندية المستعصية الاسم، وبين هذه العاصمة اللبنانية المستسهلة الكرامة، سجل سبق تاريخي قد يكون الأول من نوعه: أن يصير الإنسان محكوماً ومداناً لأنه قال الحقيقة! عبر التاريخ ثمة سوابق لا تحصى لأشخاص حوكموا لأنهم قالوا زوراً. أو لأنهم قالوا أنصاف حقائق. أو لأن الحقائق زورت لإدانتهم أو شوهت أو أخفيت أو طمست، لمحاكمتهم. لكن، على الأرجح، لم يسبق أن أدين شخص، حقيقي أو معنوي، بتهمة أنه قال الحقيقة. محكمة تلك المدينة لم تناقش إطلاقاً في أن ما قالته «الأخبار» هو حقيقة ثابتة. ولم تشكك قطعاً في أن ما نشر قرائن قاطعة. بل على العكس، حاكمت وحكمت وأدانت وغرّمت، لأن ما نشر حقيقة… إنه تطور تاريخي، يسجل لهذه الصفحات، كما يسجل على تلك المحكمة.
التطور التاريخي الثاني المسجل أمس، هو أن يدفع شعب بريء كلفة إدانة بريء آخر، بتهمة قول الحقيقة. ليست المسألة نوعاً من الكاريكاتور. ولا هي تورية للسخرية أو استعارة لرسم جدلية سوريالية. إنها حقيقة وقائعية بالكامل. ثمة شعب لبناني كامل، يفترض أن يكون بريئاً من كل ما أنشئت تلك المحكمة من أجله أو بسببه، ذريعة وغرضاً. هذا الشعب يفرض عليه فرضاً، ويتم إلزامه بآليات من القوة غير الشرعية، بأن يدفع «سخرة» ثمن تلك اللعبة. ودفع الثمن في هذا المجال، انتهاك صارخ لسيادة الشعب. وجريمة عدوان فعلي، بمفهوم القانون الدولي نفسه. جريمة قائمة بذاتها، بمعزل عن مقدار الثمن ورقمه وحجمه.
لكن في الوضع اللبناني الراهن، وفي ظل أوضاع هذا الشعب بالذات، يصير البحث في الأرقام، ولو تفصيلية أو ثانوية، ذا شأن كبير. خصوصاً في مواجهة أرقام الثمن الكبيرة. يروي أحد الخبراء المعنيين، أن الثمن الذي دفعه الشعب اللبناني حتى الآن يبدأ منذ قيام لجان التحقيق الدولية، ولم ينته بعد مع أعمال المحكمة الدولية. وهو يشمل بداية تغطية إقامة مئات من الأشخاص، قبل قيام المحكمة. مع كلفة الحمايات الأمنية التي أعطيت لهم، في سهرهم وترفيههم ورحلاتهم وعطلاتهم … وفي أثناء عملهم طبعاً. يضاف إليه عبء مالي مماثل، في تأمين سرايا كاملة من الحمايات الافتراضية لأشخاص ليسوا مقيمين في لبنان منذ أعوام. ليصل الثمن طبعاً إلى حصة لبنان من موازنات تلك المحكمة على مدى أعوام. بما يبلغ عند خط المجموع الممنوع نشره، إلى ما يناهز 800 مليون دولار… أميركي طبعاً. رقم لا يفهم حجمه، إلا إذا قورن بأرقام مآسي هذا الشعب. فهو مثلاً يساوي أكثر من مليون و700 ألف حد أدنى لأجورنا. أو أجر 40 مليون يوم عمل من عمالنا. طبعاً قبل أن تأكل منه ومنهم «حكومة المصلحة الوطنية» أربعة آلاف ليرة يومياً …
أمس أضيفت إلى تلك الخوة، 26 ألف يورو. هي لا شيء؟ بل هي اللاقيمة المضافة على خوة العار على دولة كاملة وسلطة عاجزة وحكومة مصلحة.