IMLebanon

كيس من ورق في قطار فرنسي

قبيل حلول السنة الجديدة بكّرتُ إلى “الغار دو ليون” في الطريق إلى الجنوب الفرنسي. كان قد اتعبني التنقل في الطائرة واجراءات السفر في المطارات، وقلت في نفسي عد إلى وسيلة التشرد القديمة. لكنني فوجئت بأن المحطة مزدحمة بجنود من الجيش، وبعضهم مسلح. دخلت الحافلة المقررة في توتر مسافري المطارات. لكن ما لبثت أن شعرت بالارتياح، وقد رأيت رفاق الرحلة من ذوي الوجوه المألوفة. فرنسيون وفرنسيات من أعمار غير ثورية. كانت هناك عشر دقائق قبل أن نتحرك، وفجأة، لفت إحدى السيدات كيس من الورق على مقعد مقابل. ووقفت تخاطب نفسها: “ماذا يفعل هذا هناك”؟ ثم سألت السيدات من حولها إن كان لأحدٍ منهنَّ. ولما جاء النفي عاماً، لكزت زوجها قائلة: “جان – لوي، افعل شيئاً”.

وقام جان – لوي وتأمل الكيس على المقعد، ثم عاد معلناً أنه لا بد من اطلاع المفتش. ودب القلق في جميع العروق، ومنها عروقي. لكن خوفي كان مزدوجاً: فإذا تفجر الكيس سوف أكون ضحية ومشتبهاً فيه بوقت واحد، عندما يصدر الخبر في الصحف. “وكان على الحافلة رجل ذو ملامح شرق أوسطية يرتدي معطفاً كحلياً”ّ! وزادت همهمة النساء. وفجأة، مرَّ مفتش، أو معاون مفتش، فلا أبهة له على الاطلاق. ولا شرائط على قبعته، أو نجوم على مرفقيه. واستوقفته السيدة وابلغته أن كيساً مجهول المحتوى والصاحب يقبع على المقعد المقابل بلا مبالاة مثيرة للشكوك. وكادت تقول للخوف. لكنها تماسكت. وتماسكنا.

لم يقل المعاون شيئاً. هزّ رأسه ومضى وسط استنكار وطني. وراحت الدقائق ترن بطيئة في الرؤوس. ثم فجأة، حسنُ الطالع: المفتش نفسه، بجميع الشرائط والنجوم، يمر ليعبر إلى الحافلة التالية. واستوقفته السيدة زوجة جان لوي، تؤيدها الزوجات الأخريات في الركن. وعرضَتْ أمر الكيس على المقعد. ولم يلتفت “كلوزو” صوب سلاح الجريمة على الاطلاق، بل أكمل طريقه وهو يقول برتابة: “ربما كان صاحبه في الحمام”.

وتحرك القطار. وتحركت معه نبضات قلوبنا. ثم وصلت سيدة ورفعت الكيس وجلست والانظار تطوقها. وتنهدت المدام جان – لوي: “يا الهي، إذن، الكيس لكِ”. وتنهد الجميع، ولم يعد جان – لوي يشعر بالاحراج من جلبة زوجته.

الجنود في المحطة كأنها ثكنة، والآن هذا الخوف من كيس ورق سوف يتبين بعد قليل أن فيه “مكبّات” من الصوف. إنها حال الطوارىء. وحال الحرب. ولكن اية حرب؟ ما ان افتح “الفيغارو” حتى يبدأ الكاتب اللطيف جان دورميسون بالإجابة: “نحن في حرب من نوع غير مألوف. ليس فيها جبهات ولا جيوش، ولا سلاح جوي، ولا خنادق ولا متاريس، ولا خط ماجينو. ليس فيها مدافع ولا ناقلات جند. ولا مدرعات. ولا خيالة. لكنها الحرب”.

كأنما المسيو دورميسون كان يقرأ في عروقنا قبل لحظات: المدام جان – لوي، وزوجها، وبقية رفاق الحافلة. لقد ارعبنا كيس ورق ملقى على مقعد. من قبل كان سيبدو ما هو عليه: كيساً على مقعد. لكن ذلك العالم قد تغير الآن. القاعدة في هذه الحرب هي الغدر والقسوة والرعب. لا تمييز.

لم يعد العالم كما هو. قبل باريس، كنت في لندن، التي اتمتع بالمشي في شوارعها، كما كنت اتمتع في شوارع بيروت، يوم كانت لا تزال فيها حدائق منزلية ترسل عطر الزهر خلف الجدران. وللمرة الأولى منذ اربعين عاماً، شعرت بالخوف. واعتقد أن الآخرين كانوا كذلك. وقد بدأ الخوف يوم رأيت للمرة الأولى لوحات ضوئية كبرى على مداخل نايتسبريدج وبيكاديللي تحذّر الناس من الارهاب، وتدعوهم إلى الابلاغ فوراً عن أي إنسان، أو شيء، يشتبهون فيه. مثل كيس الورق المرعب في القطار.

لم يحصل هذا في لندن منذ الحرب العالمية الثانية. ونحن كنا نشاهد هذه الاحوال فقط في المسلسلات الساخرة المليئة بالمفاكهات الانكليزية كمثل “جيش ابي”. حتى ايام “الجيش الجمهوري الايرلندي” وتفجيراته القاتلة، كان يُرسل الانذارات قبل موعد التفجير. لكن هذه حرب تطلق فيها النار على المقاهي والمتاحف وحفلات الغناء. حرب يفجر فيها اللبناني أهله قبل أن يمضي في طريقه لتفجير الآخرين. والسوري في الرقة يقتل أمه، ويفجر الكويتي المسجد بالمصلين وهم ساجدون.

المسألة في هذه الحرب هي “الموقف”: يتأمل رجل هندي اعجوبة بلاده: 30 مليون إنسان يتنقلون في القطارات كل يوم. وهو ماذا يفعل؟ هو كان يتنقل في المقاهي واصبح يتنقل في عظات الموت وعشق العدم. ما هو الحل الأمثل؟ فجِّر القطار وسوف توصلك السكة إلى الجنة مباشرة.

بوكو حرام. العلم حرام. وعلى مليارات البشر الذين يتنقلون حول العالم بشتى وسائل النقل أن يدركوا أن الخلاص هو في العودة إلى عربات البغال. أما تلك الآلات التي حررت الفلاح من شقاء المعوَل ورفقة البقر، فهي بوكو. والبوكو حرام.

في مثل هذه الحالات العدمية يتحول العالم إلى ساحة للعدميين، يهددون معاني الحياة فيه. ويظهرون في لغات عدة. والذي يغير في ملامح العالم كما عرفناه، ليسوا فقط مهووسي الدم والعتم، بل ايضاً سُوَقة في ثياب انيقة. مثل دونالد ترامب. هذه ظواهر شعبوية ليست من اليوم، بل لها حضور عابر في كل زمن. لا يختلف دونالد ترامب في نظرته إلى العرب والمسلمين عن الروسي فلاديمير جيرينوفسكي، الذي منعته سويسرا حتى من الزيارة للعلاج: السبب؟ الخوف من التلوث الوبائي. الخطاب الشفهي يحط ايضاً من إنسانية البشر وليس فقط الإرهابي المعبأ والمحشو قتلاً وموتاً وبغضاً وتجويعاً ورماداً وبيانات من الأمم المتحدة.

الذي يزعزع العالم الذي عرفناه، ليس أعداد الإرهابيين، أو حجم إرهابهم، وإنما هو سقوط المؤسسة الاخلاقية العالمية المعروفة بـ “الأسرة الدولية”. “الأسرة” التي توزع السلاح وتحجب الطعام والثياب والدواء. و “الأسرة” التي تحدثت عن كل شيء في سوريا إلا عن وقف النار الفوري، ووقف التشريد، ووقف توسيع المخيمات وتغميق المتوسط أمام اليائسين والبائسين في مجتمع دولي متردٍ، ولا يقل سوءاً عن هذه الدول المتخلّفة والعائمة على الدماء والكره، وتحويل الرحمة إلى مذابح بلا حدود.

يتسامر مسافرو القطار عندما تطول الرحلة.والسؤال الأول، من أين حضرة الجناب؟ ولم أرفع رأسي عن الكتاب لكي لا يُطرح علي السؤال ويدب القلق العام من جديد. لئلا مفرّ. قبيل الوصول إلى محطة طولون، باغتتني المدام جان – لوي من الجانب الآخر بالسؤال: “وقارئنا المنهمك مسافر إلى طولون يا ترى”؟ أجبت أنني أكمل الرحلة إلى آخرها، في نيس. اعترضت المدام جان – لوي برفق، “لكن يجب أن تزور طولون. التاريخ هنا وليس في نيس”. وقلت: “أعرف ذلك. أذكرها شارعاً شارعاً وقلعة قلعة من روايات روكامبول التي قرأتها صغيراً”. وقهقهت السيدة جان – لوي، وشاركها الجميع: “يبدوأن ذلك كان منذ وقت طويل”. وضحكت أنا أيضاً. فأي سؤال آخر قد يفجر مسألة “الملامح الشرق الاوسطية”، وأخبار لبنان والتحسر الفرنسي عليه. في الماضي كنا نتمنى أن نُسأل في القطارات من أين أنت، لكي نصغي إلى تشوق الفرنسيين إلى زيارة البلد الذي قدمه لهم رينان ودو نرفال ودو لامارتين وعشرات الرحالة والزوار والفنانين الذين ظلوا يُقبلون على هذه الناحية من المتوسط، الجهة الأكثر قدما وتراثاً وسحر الماضي.

الآن تصدّر هذه الجهة من المتوسط جوعى وغرقى و “اذلاّء مهانين” كما في عنوان دوستويفسكي، أو “بؤساء” كما في العناوين التي ترجمها طانيوس عبده، الذي ترجم لنا سحريات “روكامبول” بشيء من التصرف والعجلة. فقد كان قرّاؤه لا يطيقون صبراً على معرفة مغامرة روكامبول التالية، في طولون، الآن مدينة المدام جان – لوي، المجهولة اسم العائلة.

كان الخوف فردياً والبطولة فردية. حتى اللص كان نبيلاً لا يسرق المسنّات والأرامل كما يفعل حرامية الأشرفية. لكن كل شيء تغيّر في هذا العالم المنزلق في سرعة جنونية نحو الجهنميات التي يسمّيها البعض طريق الجنة. حرب بلا جبهات، يسميها جان دورميسون. رئاسة بلا رئيس ولا نعرف من الفاعل، لكننا نعرف أن كل زائر ايراني يستنكر التدخل في شؤون لبنان الداخلية. هكذا كانت سوريا أيضاً. وطوال الحرب، كانت أميركا تردد أسبوعياً، على الأقل، أنها “حريصة على سيادة لبنان واستقلاله وسلامة أراضيه”. لم نعد وحدنا في نماذج السيادة الوطنية. تكاثرت السيادات في كل مكان. شكل الحرب الجديدة، كما يقول المسيو دورميسون. العدم في مواجهة شرعة الحياة.