Site icon IMLebanon

سوق سوداء.. ومرحلة سياسية سوداء

 

دقت ساعة الحقيقة، ولم يعد بإمكان المسؤولين التخفي وراء الأرقام الوهمية، وتغطية «السموات بالقبوات»، كما يقول المثل الشعبي المعروف.

 

الواقع أن مجموعة حقائق قد ظهرت على سطح الأزمة المتفاقمة، اقتصادياً ومالياً، ووصلت تداعياتها إلى العملة الوطنية، وضربت إستقرار قيمتها مقابل الدولار والعملات الأخرى، فيما بقيت الحكومة غائبة عن أية معالجات جدية وقادرة على الحد من حالة الهلع التي سادت الأسواق المالية والنقدية، وفجّرت كل هذا القلق عند اللبنانيين، سواء المقيمين أو المنتشرين.

 

الحقيقة الأولى، والتي تكرس واقعاً جديداً يوماً بعد يوم، هي وجود سوق سوداء للدولار في البلد، وذلك لأول مرة في تاريخ النظام الإقتصادي في لبنان، القائم على قواعد الإقتصاد الحر. وهذا يعني أنه أصبح لدينا سعران للعملة الخضراء: الرسمي المحدد من قبل البنك المركزي والذي تلتزم به المصارف عادة، و«التجاري» الذي يتم تداوله في السوق الموازية عند الصرافين، والذي تُسمى عادة السوق السوداء.

 

إلتزام مصرف لبنان تأمين التمويل اللازم للقمح والنفط والأدوية بالسعر الرسمي، وإبقاء تمويل بقية السلع المستوردة خاضعاً لتقلبات الأسعار عند الصرافين، أدّى بطريقة غير مباشرة إلى تكريس وجود السعرين، دون تحديد سقف معين لسعر الصرف في السوق السوداء. «التطنيش» الرسمي على هذا الواقع المستجد، يعني بالنسبة للخبراء الماليين أن ثمة إتجاهاً لإعادة النظر بسياسة تثبيت سعر الليرة، وترك السوق يرسم الحدود التي يمكن أن تصل إليها، في حين أن البعض الآخر يرى أن البنك المركزي لم يعد بموقع المدافع عن سعر صرف الليرة، تجنباً لإستهلاك المزيد من إحتياطاته المتناقصة، للأسباب المعروفة.

 

ولكن ليس من السهل على اللبنانيين تجرُّع هذه «الكأس المرة»، ومضاعفاتها على مستوى حياتهم اليومية، وعلى لقمة عيشهم، فيما الدولة تبدو عاجزة عن التصدي لمزاريب الهدر والفساد، وتكتفي بملاحقة الموظفين والمتقاعدين وذوي الدخل المحدود، وتفرض الضرائب على المواطنين، وتتجاهل مليارات الكهرباء الضائعة، وأصحاب المنشآت على الأملاك البحرية، وملايين الجمارك المنهوبة، والتهرب الضريبي الذي يتخذ أشكالاً وأساليب ملتوية وغير خافية على أحد.

 

من الطرافة بمكان أن الدولة عوض القيام بالإصلاحات المالية والإدارية المطلوبة منها، وتنفيذ خطة إنقاذية على مستوى مجابهة المخاطر التي تهدد الإستقرار الإجتماعي، وعيش آلاف الأسر اللبنانية، قامت بشهر سيف القمع والترهيب ضد الإعلام، وخلط فرسانها بين الإعلام الوطني الملتزم بالحقيقة، وبين طفرة المواقع الألكترونية التي يُطلق بعضهاالإشاعات والحملات دون حسيب أو رقيب، وكأن المطلوب إسكات أصوات الحق والنقد، ومساواتها بأصحاب الممارسات المغرضة في وسائل التواصل الإجتماعي!

 

هل الإعلام هو المسؤول عن عرقلة خطط الكهرباء، وهدر الملياري دولار سنوياً، دون تأمين التيار الكهربائي، وشرعنة مولدات الأحياء بفرض تركيب العدادات؟

 

من قال أن الإعلام يحمي أصحاب الصفقات والسمسرات، وغيرهم من جماعة الفساد، وبالتالي يستحق التهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور؟

 

متى كان الإعلام هو المسبب بتضييع فرص مؤتمر سيدر، وعدم تحقيق الإجراءات الإصلاحية التي تعهدت بها الحكومة اللبنانية أمام الدول المانحة ؟ وهل الإعلام هو الذي يحرِّض الناس على النزول إلى الشارع والتظاهر والمطالبة بفتح ملفات الفاسدين؟

 

من البديهي تعاظم حالات الغضب والغليان عند المواطنين الغلابى، الذين يتهمون بعضهم بعضاً بالتحول إلى قطعان غنم في الإنتخابات النيابية أمام مسالخ الطائفية والمذهبية، إزاء الإنهيار الحاصل في الثوابت المالية والإجتماعية، وما يسببه من تداعيات مأساوية على الصعد التربوية والصحية والمعيشية، وما يتبعه من خلل في البنية الإجتماعية، في مرحلة ضربت فيها البطالة أرقاماً قياسية، وطالت أكثر من ثلث الشعب اللبناني.

 

وما يُخيف اللبنانيين أكثر، هو هذا الشعور بأننا دخلنا بداية النفق المالي الأسود، ونحن ما زلنا في بداية الطريق، والآتي قد يكون أقسى وأكثر مرارة من الحاضر، في حال بقيت الأمور تسير على منوال العجز وعدم القدرة على إقفال مزاريب الفساد والهدر، والإعتماد دائماً على الحسومات من رواتب الموظفين، وفرض الضرائب على هذا الشعب المُستسِلم لقدره، والمُستَنزف بقدراته وطموحاته!

 

البلد أمام تحديات كبيرة وصعبة، ومعركة السلطة ليست مع الإعلام الوطني الملتزم، بل هي أساساً مع أهل الفساد وناهبي أموال الدولة والشعب، إذا كان ثمة قدرة حقيقية على السير بطريق الإصلاح والإنقاذ والخروج من المرحلة السياسية السوداء، وليس فقط من السوق المالية السوداء!