يصعب على إدارة دونالد ترامب التراجع عن توجيه ضربة إلى النظام السوري، بحجّة استخدامه السلاح الكيميائي في الغوطة الشرقية خصوصاً في بلدة دوما. هذا عائد إلى أسباب عدّة. في مقدّم هذه الأسباب الوضع الداخلي للرئيس الأميركي الذي يواجه تحقيقاً في العمق في شأن تمويل حملته الانتخابية ومسائل أخرى ذات طابع شخصي. استدعى ذلك تفتيش رجال مكتب التحقيق الفيديرالي (أف. بي. آي) مكتب محاميه الخاص مايكل كوهين في نيويورك مع ما يعنيه ذلك من رغبة وإصرار لدى السلطات القضائية الأميركية في الذهاب بعيداً في تحقيقاتها. تشمل هذه التحقيقات قضايا تراوح بين السلوك الشخصي لترامب وطريقة تعاطيه مع ممثلة إباحية أراد إسكاتها بالمال، وطبيعة العلاقة مع روسيا أو أوكرانيا في مرحلة معيّنة والاتهامات بتمويل جهات خارجية لحملته الانتخابية في العام 2016.
أيّاً تكن نتائج هذه التحقيقات، التي يقودها المحقّق الخاص روبرت مولر، يواجه الرئيس الأميركي ضغوطاً كبيرة لم يسبق لأي مقيم في البيت الأبيض أن تعرّض لمثيل لها في النصف الأوّل من عهده. سيجد الرئيس الأميركي نفسه مضطراً للهرب إلى الخارج، إلى سوريا تحديداً، بعدما تصرّف منذ دخوله البيت الأبيض على طريقة باراك أوباما.
حسناً، لدى دونالد ترامب همّ تأكيد أنّه ليس باراك أوباما. حرص على إيضاح ذلك في تغريدات له قبل أيّام وصف فيها بشّار الأسد بـ«الحيوان». وهذا تصرّف جديد من نوعه لم تتعوّد عليه مدينة مثل واشنطن دي. سي.
كانت تلك التغريدات، التي تطرّق فيها ترامب إلى سلفه وإلى تراجعه عن ضرب النظام السوري صيف العام 2013، بمثابة الإشارة الأولى إلى أنّه سيفعل شيئاً على الأرض السورية، على الرغم من كلامه المفاجئ قبل أسبوعين، أو أقلّ، عن «انسحاب عسكري سريع» منها.
يبدو أنّ الكلام عن الانسحاب «السريع» كان من أجل تغطية مزيد من التورط في سوريا في وقت بات معروفاً أن إيران تحاول تثبيت أقدامها فيها. زاد الوجود الإيراني في سوريا عمقاً واتساعاً بعدما فشل الروسي في كبحه تلبية للوعود التي سبق له أن قطعها لكثيرين، بما في ذلك إسرائيل والولايات المتحدة وجهات عربية معنية مباشرة بسوريا. ما يهمّ هذه الجهات عدم قيام «الهلال الفارسي» أي خطّ طهران – بيروت، مروراً ببغداد ودمشق.
في ظلّ الضغوط الداخلية من جهة والإصرار على أن يكون مختلفا كلّياً عن باراك أوباما من جهة أخرى، لم يعد من خيار آخر أمام ترامب غير الإقدام على عمل في سوريا. تقوم كلّ فلسفة إدارة ترامب على ضربة لنظام بشّار الأسد تصبّ في إضعاف إيران وإفهام روسيا، في الوقت ذاته، أنّ ليس في استطاعتها متابعة لعبة تخدم المشروع التوسّعي لطهران على حساب الشعب السوري ومدنه وتركيبته الاجتماعية.
الأكيد أنّ إدارة ترامب غير مهتمّة، وسط كلّ ذلك، بمصير الشعب السوري وبالحرب التي يتعرّض لها على يد نظام اقلّوي أصبح رهينة إيرانية أكثر من أيّ وقت منذ خلف بشّار والده في العام 2000 وحتّى قبل ذلك. أي مذ صار بشّار الحاكم الفعلي لسوريا ابتداء من العام 1998 عندما بدأت الحال الصحّية لحافظ الأسد تسوء تدريجاً، فيما السلطة تنتقل إلى خليفته.
لو كان الشعب السوري همّاً أميركياً، لما كانت الحاجة إلى عذر اسمه استخدام السلاح الكيميائي. البراميل المتفجّرة ليست أقل سؤاً بكثير من السلاح الكيميائي، الذي يلجأ إليه بشّار بين حين وآخر لتهجير القسم الأكبر من السوريين من بلدهم أو من المناطق التي يقيمون فيها خدمة للمشروع الإيراني، الذي يستهدف بين ما يستهدف تغيير الطبيعة الديموغرافية لدمشق والمناطق المحيطة بها مثل الغوطة الشرقية والزبداني على سبيل المثال وليس الحصر.
المهمّ الآن أن تكون الضربة، في حال حصولها، ذات فائدة للشعب السوري المظلوم وليس من أجل إراحة ترامب وتمكينه من تجاوز أزمته الداخلية وإظهار أنّه ليس باراك أوباما. المهمّ أيضاً، وربّما الأهمّ، ان تندرج هذه الضربة في سياق رؤية استراتيجية متكاملة للشرق الأوسط والخليج في وقت تعاني فيه المنطقة كلّها من السياسة الإيرانية القائمة على الاستثمار في إثارة الغرائز المذهبية، فضلاً عن دعم قيام ميليشيات طائفية تدمّر مؤسسات الدولة أو ما بقي منها، كما الحال في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
لا شكّ أن اللاعب الهامشي على صعيد ما يدور في سوريا حالياً هو النظام نفسه. لم يعد من دور لهذا النظام سوى تنفيذ ما تطلبه إيران. الدليل على ذلك ما جرى ويجري في الغوطة الشرقية. ترافقت مأساة تدمير القرى والبلدات وتهجير أهلها في تلك المنطقة مع صدور قانون يُجبر كل مواطن على تأكيد ملكيته لأرضه في غضون شهر. إذا لم يفعل ذلك، تصادر الأرض وتعرض للبيع في مزاد علني. ستكون إيران جاهزة، عبر واجهات لها لشراء الأرض المعروضة. من لا يُصدّق ذلك يستطيع العودة إلى هذا القانون الذي أصدره بشّار الأسد قبل أيام وحمل الرقم 10 للسنة 2018. تأمل إيران من هذا القانون استيفاء ديونها لدى سوريا عن طريق أراضٍ ومزارع وممتلكات تحصل عليها في دمشق ومحيط دمشق ومناطق أخرى.
لم يعد سرّاً أن إيران تدرك جيّداً ما تفعله في سوريا. تدرك جيّداً ما الذي يعنيه، بالنسبة إليها، تدمير كلّ مدينة عربية، من البصره إلى بغداد إلى الموصل في العراق، إلى حمص وحماة وحلب في سوريا.. وصولاً إلى تغيير تركيبة دمشق. لكنّ السؤال المؤسف الذي يطرح نفسه بحدّة كيف يمكن لدولة مثل روسيا، يُفترض فيها أن تعرف سوريا في العمق وأدق التفاصيل، العمل في خدمة المشروع الإيراني؟ لا يعود ذلك مستغرباً عندما يعتمد الروسي في سوريا على «شرعية» النظام القائم. عن أيّ «شرعية» يتحدّث المسؤولون الروس؟ لو كان لأيّ نظام دعمته روسيا منذ أيّام الاتحاد السوفياتي في أوروبا الشرقية شرعية ما، لما كان ذلك الانهيار الكبير الذي بدأ بسقوط جدار برلين في تشرين الثاني (نوفمبر) 1989 وتوّج بتفكّك الاتحاد السوفياتي مطلع العام 1992.
ستعني الضربة الأميركية في سوريا الكثير، كما قد لا تعني شيئاً. ستعني الكثير بالنسبة إلى سوريا نفسها والعراق ولبنان، وحتّى الأردن واليمن والبحرين، في حال حصول الانكفاء الإيراني، وهو انكفاء ستكون له انعكاساته في الداخل الإيراني. كذلك، ستعني الكثير لأيّ دولة من دول الخليج العربي التي تعاني منذ سنوات طويلة من العدوانية الإيرانية ومن نظام مفلس ليس لديه سوى تصدير أزماته إلى خارج أراضيه.
لن تعني الضربة شيئاً في غياب الرؤية الاستراتيجية، بمعنى أن يكون همّ دونالد ترامب محصوراً في إنقاذ رئاسة دونالد ترامب لا أكثر..