قبل شهر تقريباً، أعلن «حزب العمال» البرازيلي أن رئيس بلدية ساو-باولو السابق فرناندو حداد سيكون مرشحه في الانتخابات الرئاسية المقررة غداً الأحد (7 تشرين الأول- أكتوبر).
وجاء الإعلان خلال تجمع حاشد أمام السجن الكائن في مدينة «كوريتيبا»، حيث الرئيس الأسبق لويس لولا دي سيلفا ينفذ حكماً بالسجن لمدة 12 سنة بتهم تتعلق بالفساد.
وقرأت رئيسة «حزب العمال»، جليسي هوفمان، أمام الجمهور رسالة من لولا يدعم فيها ترشيح حداد للانتخابات المقبلة. كذلك اختيرت مانويلا دافيلا الشيوعية نائباً للرئيس.
وكان لولا متقدماً على المرشحين الآخرين، بحسب استطلاعات الرأي، بحيث حصل على تأييد أكثر من أربعين في المئة. ولكن المحكمة منعته من خوض سباق الانتخابات بسبب سجله الجنائي.
وتشير سيرة لولا إلى بداية متواضعة جداً، بحيث أنه وصل إلى ساو-باولو مع أشقائه السبعة الذين شاركوه الإقامة في شقة بسيطة بحي الفقراء.
وذكرت مجلة «تايم»، التي احتفلت بنجاحه لمنصب رئاسة جمهورية البرازيل عام 2003، أنه عمل إسكافياً في بداية الأمر. وتظهر آثار تلك المرحلة الصعبة عبر إصبعه المقطوع من يده اليمنى. وقد اختارت المجلة لتأكيد عصامية لولا صورة حذاء رجالي نشرتها على غلافها.
خلال فترة لا تتعدى العشر سنوات، أقدم لولا على الانخراط في «حزب العمال» الذي يضم أربعين مليون عضو، غالبيتهم من الطبقة الفقيرة. وراح يتدرج في كوادر الحزب إلى أن أصبح نقيباً لعمال صناعة المعادن. وبما أن البرازيل تختزن في أرضها مساحة كبيرة من معدن الحديد، فقد عقد لولا اتفاقاً تجارياً مع الصين لتصدير كميات ضخمة من التراب الأسود. ومنذ ذلك الحين، وبواخر النقل العملاقة تنقل إلى الصين التراب الأسود الذي يُستخرَج منه الحديد.
وبسبب نشاط لولا داخل «حزب العمال»، انتخبته الأكثرية نائباً في البرلمان. ولما اتسعت شعبيته قفز مباشرة من البرلمان إلى رئاسة الجمهورية. وقد أسعفه على تحقيق تلك الأمنية عدة مشاريع مخصصة لمساعدة الفقراء، وخصوصاً من عنصر السود.
وبخلاف الأرجنتين التي رفضت حكوماتها استقبال سود أفريقيا، فإن المساحات الزراعية الشاسعة في البرازيل فرضت على المواطنين البيض الأصليين استخدام السود. وهم حالياً يشكلون خمسين في المئة من أصل 210 ملايين مواطن.
بعدما أمضى لولا في القصر الجمهوري ولايتين- مثلما يقضي الدستور- جيّر شعبيته إلى وزيرة سابقة في الحزب هي ديلما روسيف. وقد شهدت المدن البرازيلية في عهدها تظاهرات عنيفة لم تسلم منها المصارف وحافلات النقل الداخلي التي تفاخر تلك البلاد بكثرتها وجودتها. ولكنها تعرضت لسخط المحتجين الذين اعترضوا على رفع أسعار النقل. كما احتجوا على تخصيص 12 بليون جنيه لتشييد ملعب لكرة القدم. وهكذا أطلقت الصحافة في حينه على حركة العصيان لقب «الربيع البرازيلي» نسبة إلى انتفاضات «الربيع العربي»!
وسط ضجيج شوارع 645 مدينة تتألف منها ولاية ساو-باولو، حرضت أحزاب اليمين على عزل روسيف بحجة التعتيم على عملية رشوة قام بها لولا بواسطة أتباعه في شركة النفط بترو-براس. وقُدِّرَت عمولات الرشوة التي دخلت في حساب لولا وشركاته الوهمية بـ24 بليون دولار. وقد تعرض للمحاكمة بواسطة المجلس الأعلى للعدل وأدخل السجن لمدة 12 سنة. وكان من الطبيعي أن تتعرض الرئيسة ديلما روسيف للعزل، ويحل مكانها نائبها ميشال تامر.
وميشال هو نجل نخلة تامر من بلدة «بتعبورة»- قضاء الكورة- وقد وُلِد في البرازيل بعكس أشقائه تامر وفؤاد وأديب الذين ولدوا في القرية اللبنانية. وعندما انتُخِب رئيساً لمجلس نواب البرازيل، وجه إليه الرئيس نبيه بري دعوة لزيارة مسقط رأسه.
مع استعداد ميشال تامر لمغادرة منصبه بعد أقل من شهرين… وتهيؤ فرناندو حداد لخوض معركة خلافته، تكثر الأسئلة حول أسباب انخراط مغتربين من أصول لبنانية في الحياة السياسية لأكبر دولة في أميركا اللاتينية. واللافت في الأمر أن عدداً منهم تناوب على حكم أكبر مدينة في البرازيل بدءاً بجيلبرتو كساب… وانتهاء بباولو معلوف، مرشح الرئاسة عام 1985. وبين هذا وذاك عشرات الأسماء الطنانة التي لعبت دوراً مهماً في الاقتصاد والصناعة والتجارة والسياسة والسياحة والإعمار.
أول سفير لبناني حرص على استكشاف أصول عائلات المغتربين في البرازيل كان السفير المرحوم فريد حبيب الذي خدم في تلك البلاد من عام 1967 حتى عام 1970. وقد أوكل إلى أحد كبار موظفي السفارة مهمة البحث عن جذور الرعيل الأول الذي استبدل الأسماء العربية بأسماء برتغالية. وتبيّن له من خلال الاستقصاءات التي أجرتها السفارة أن عدد المغتربين اللبنانيين في البرازيل يزيد على تسعة ملايين نسمة. كما تبين له أن انتشارهم بدأ عقب زيارة إمبراطور البرازيل دوم بادرو الثاني الذي قام عام 1871 بجولة شملت مصر ولبنان وسورية وفلسطين.
ويقول مؤرخو تلك الحقبة أن الإمبراطور كان شغوفاً باللغة العربية التي تلقنها وأتقنها بمساعدة مستشرق ألماني.
وقد وصل إلى مرفأ بيروت، ترافقه زوجته الإمبراطورة تيريزا كريستينا ماريا، ووفد مؤلف من مئتي شخص. ولما ركنت الباخرة «أكيلا أمبيريا» في المرفأ، رفعت علم البرازيل المؤلف من اللونين الأخضر والأصفر. ثم واكبته كتيبة من الجنود إلى حيث ينزل مع حاشيته في فندق يُدعى «المنظر الجميل» Belle Vue.
ودشن الإمبراطور زيارته للبنان بزيارة غابة الأرز التي وصلها على ظهر حصانه الأبيض، عبر طريق ترابية وعر المسالك، كذلك زار بكركي حيث استقبله البطريرك الماروني بولس مسعد الذي توفي عام 1890.
وفي طريقه إلى شتورة وبعلبك قام بزيارة مجاملة للحاكم العثماني العام رستم باشا مرياني. وقد تقدم موكبه دليلان هما أنطوان وملحم ورد من بيروت. وعلى طول الطريق إلى بعلبك كان أهل القرى يخرجون لتحيته واستقباله بالأزهار والزغاريد. ولما أطل على أعمدة بعلبك، ذُهِل لمرأى أضخم أعمدة في العالم، ودوّن في مفكرته هذه العبارة: «اليوم كتبت اسمي في السجل الذهبي لمعبد باخوس… واليوم أعترف بأن الإنجاز الذي حققته يستأهل كل التعب والعناء ووعورة الطريق».
وبما أن الإمبراطور البرازيلي كان مولعاً باللغة العربية، فقد حرص على زيارة كوليج بروتستانت التي تحولت لاحقاً إلى الجامعة الأميركية. كما زار كوليج جازويت الفرنسية- اليسوعية التي تحولت إلى جامعة القديس يوسف.
وبين كبار المثقفين الذين عرفهم خلال تلك الزيارة إبراهيم اليازجي الذي أهدى الضيف الكبير عدة كتب نادرة هي حالياً موجودة في المتحف الإمبراطوري في الريو.
وحدث أثناء زيارته للجامعة الأميركية أن قدّم له البروفسور كورنيلوس فان دايك بعض الطلاب المتفوقين. وكان بينهم الشاب نعمة يافث الذي أعجِب بالعرض الذي قدمه الإمبراطور حول المجالات الواسعة للذين يطمحون إلى جني الثروات في بلاد واسعة شاسعة.
وقد لبّى تلك الدعوة المفتوحة مئات من اللبنانيين الذين تركوا بصماتهم على كل الميادين، مثلما جعلوا من «النادي اللبناني» نموذجاً يفتخر به البرازيليون، ويستقبلون فيه ضيوف الدولة. وقد شهد على ذلك الرئيس بشار الأسد خلال زيارته الرسمية لتلك البلاد التي أطلق عليها الإعلاميون «قرطاجة اللبنانية». وسبب هذه التسمية يعود إلى قرطاجة التونسية حيث استخدمها هنيبعل محطة أوروبية ينتقل إليها أهل صيدا وصور وجبيل.
ويقول المؤرخون إن سبب شغف دوم بادرو بلبنان كونه ولِد في منزل لبناني كان يملكه أنطوان الياس لبس. ولدى حلول ملك البرتغال في البرازيل عام 1808 قدّم له ذلك المغترب منزله الذي حوّله إلى «مسكن الإمبراطور».
بعد مرور 142 سنة على زيارة الإمبراطور بادرو الثاني إلى لبنان، نجح المغتربون في مختلف الميادين الاقتصادية والسياسية بحيث تحولوا إلى جزء من النسيج الوطني.
غداً الأحد تشهد البرازيل معركة سياسية حامية لانتخاب رئيس جمهورية من بين خمسة مرشحين. وفي الوقت ذاته يتم انتخاب مجلسي الشيوخ والنواب. وتراهن مكاتب استطلاعات الرأي على فوز واحد من اثنين: غاير بولسونارو الذي يمثل أقصى اليمين (32 في المئة) وفرناندو حداد الذي يمثل الرئيس السابق لولا دي سيلفا وحزب العمال (22 في المئة).
والطريف في الأمر أن حداد- وهو من أصول لبنانية- أنتخِب سابقاً رئيساً لبلدية ساو-باولو، وأنه يخوض انتخابات الرئاسة في ظل رئيس من أصول لبنانية، هو ميشال تامر.
ومع أن الفارق بينه وبين مرشح اليمين يتجاوز العشرة في المئة، إلا أن حداد يتمنى على لولا تجسير هذا الفارق بواسطة نداء آخر يحث فيه الحزب على التصويت لمصلحته. وفي حال فشل «حزب العمال» في ترميم الهوة، فإن الضابط السابق في الجيش بولسونارو سيكون نسخة أخرى عن رئيس يُدعى دونالد ترامب!
* كاتب وصحافي لبناني