المعادلة التي طرحها «المرشد» الإيراني علي خامنئي إزاء الأميركيين والقائلة بـ«لا تفاوض.. ولا حرب» تدلّ على تواضع في التوجيه والإرشاد والتبليغ لم يكن مألوفاً سابقاً، مثلما تدلّ على مكابرة غير واقعية.
«لا حرب» تعني الكثير: أولاً أن إيران «لا تريد» مواجهة مع الولايات المتحدة، مثلما أن الولايات المتحدة «لا تريد» مواجهة مع إيران. وهذا واضح إيرانياً ومبهم أميركياً. لكنه يدلّ على أن صاحب الشأن في طهران يُقارب الأمر من زاوية أرضية وليست سماوية! ويعرف تماماً ميزان القوى الكلاسيكي مثلما يعرف واقع الحال القائم والذي لا يحتمل سوية «اقتصاد السلام» فما بالك بـ«اقتصاد الحرب»؟!
ويعني ثانياً أن الاستنزاف أخذ مداه في الداخل الإيراني. ولم تعد شعارات التعبئة الاستنفارية المؤدلجة باتجاه «الشيطان الأكبر» تلقى القبول الذهني عند أصحاب الأمعاء الخاوية والجيوب الفارغة مثلما كان عليه الحال أيام زمان!.. ويعني ثالثاً، الانتباه التام إلى أن الرئيس دونالد ترامب هو من النوع الجامد، الذي يطرح «الفكرة» ويبقى خلفها إلى أن تتحقق إذا كانت قابلة للتحقق «علمياً وحسابياً»! والواضح أنه بنى ويبني سياسته إزاء إيران استناداً إلى مخزون معلوماتي دقيقّ وإلى حسابات واقعية، زائداً عليها همّة «رسالية» تجعله «مؤمناً» أن واحدة من أولى «واجباته» هي «إنقاذ إيران من حكّامها» وليس الاستمرار في سياسة الاحتواء الإيجابي التي اعتمدها سلفه الآفل (والسيّئ الذكر) باراك أوباما ولم تصل إلى تغيير سلوك طهران وضبط مخاطرها إقليمياً ودولياً.
وأهمية الـ«لا حرب» هذه أنها صادرة عن «المرشد» الديني والسياسي نفسه بعد موجة من التوعّدات والتهديدات الكبيرة التي صدرت عن قادة «الحرس الثوري» المرعيّ مباشرة من قبله! ووصلت إلى الطقم «الرسمي» على لسان رئيس الجمهورية الشيخ حسن روحاني ووزير الخارجية محمد جواد ظريف وخصوصاً إزاء التهديد المباشر بالردّ على منع تصدير النفط الإيراني بمنع المصدّرين الآخرين من ذلك!
يخفّض السقف «المرشد» الإيراني، ويضع حدّاً مسبقاً للمواجهة المفتوحة بحيث لا تصل إلى الصِدام العسكري المستحيل والمعروفة نتيجته سلفاً! ثم يرتدّ تلقائياً إلى الداخل. وبدلاً من الاستمرار في إلقاء تبعات الأزمات على التآمر الخارجي! وبدلاً من أن يدعو الإيرانيين إلى «الصمود» و«التضحية» يعطي الإشارة «المنتظرة» لبدء «حملة على الفساد الاقتصادي» مع علمه المسبق (والله أعلم) أن أزمة إيران الكبرى لم يصنعها الفساد وإنما السياسات الخارجية والطموحات المستحيلة والعناوين المنفوخة.. والمفضية إلى غير مضامينها!
أمّا الشق الثاني من المعادلة المذكورة، الخاص بـ«لا تفاوض» فهو أقل واقعية من اللاء المرفوعة في وجه الحرب، بل يبدو غير منطقي وغير عملي. والمقصود منه نكران الانكسار على طريقة لاءات الخرطوم الثلاث الشهيرة بعد حرب العام 1967 العربية – الإسرائيلية! سوى أنه في حالة إيران (على نقيض مصر الناصرية وسوريا البعثية) يستدرج التفاوض بدلاً من أن ينفيه طالما أن البديل الذي هو القتال ليس مطروحاً؟!
والواضح أن لعبة الزمن والانتظار ليست خياراً متوفراً أمام إيران اليوم وفي المستقبل المنظور.. والمراوحة في المكان الملتبس بين اللاسلم واللاحرب، ليست ممكنة في ضوء الأزمات الداخلية المُتصاعدة بسرعة (أو المتدحرجة نزولاً!) وفي ظل الأجندة الهجومية الواضحة التي يطرحها ويعتمدها الرئيس الأميركي.
.. شخصنة القضايا الكبرى في أي مكان وخصوصاً في عوالم العرب والمسلمين أفضت وتفضي إلى نتائج كارثية: لم يتحمل حافظ الأسد أن «يدخل التاريخ» من باب توقيع اتفاق سلام مع إسرائيل، وتلطّى خلف الأمتار العشرة الواصلة إلى بحيرة طبرية! ولم يتحمّل ياسر عرفات الثقل ذاته وتلطّى خلف قصّة القدس! ولا يتحمل «المرشد» الإيراني على ما يبدو، وطأة التفاوض مع الأميركيين تحت سقف المطالب التي يطرحونها.. ولا داعي للاسترسال في توقّع النتائج «الأخيرة» لهذه المناحة!