Site icon IMLebanon

رجل دين ونائب وأزمات عميقة…

كلام في السياسة | 

قبل يومين، وعند غروب يوم «موقعة السرايا» الطويل، كان أحد رجال الدين مشاركاً في حفل دبلوماسي، كممثل لمرجعيته الروحية. فور وصوله، سارع إلى مصافحة أحد النواب الحاضرين، ومحاورته ساخراً. سأله عن صحة المعلومات التي تناقلتها وسائل الإعلام، عن كون أحد أعضاء مجلس النواب اللبناني، قد تعرض للضرب على أيدي العناصر الأمنيين المحتشدين في مواجهة المتظاهرين المدنيين ذاك النهار.

فرد النائب بأن ما بلغه من وقائع يقتصر على أن زميله علق وسط «دربكة» عنيفة بين العسكر والشباب، وأنه تعرض خلال ذلك لتدافع عنيف على ظهره. فتابع رجل الدين كلامه بسحنته الهازئة نفسها، ليقول: لقد نجوتم إذن. بضع ضربات على الظهر لا تؤهله لأكثر من ترقية وزير. بينما لو أصيب على رأسه لتحولت مكافأته حكماً الى موقع دولة رئيس!

المفارقة في تلك الواقعة المخزية، أن النائب الضحية لم يكن من طائفة المتظاهرين الذين نزلوا إلى الشارع، فيما رجل الدين المستظرف، هو من طائفة أولئك الشباب الذين تعرضوا للضرب العنيف، وهم يرفعون شعارات الدفاع عن حقوق طائفته. ماذا تكشف تلك الحادثة؟

أولاً أن اللبنانيين، في كل مكون من مكوناتهم، وداخل أي تشكيل سياسي أو حزبي أو مذهبي أو طائفي من تشكيلات اجتماعهم السياسي، يعيشون أزمة عميقة على مستوى تشخيصهم لقضاياهم الوطنية. لا تجمعهم داخل الإطار الواحد من أطرهم المتوالدة والمتناسلة، أي وحدة صف، ولا وحدة موقف، ولا حتى وحدة رأي بالحد الأدنى، حول سؤال بسيط من نوع: ما هو تحديدنا لأزمتنا؟ بل هو جزء كبير من أسباب الكارثة التي يعيشون، أنهم يكادون يكونون منقسمين، فردياً حتى، حيال تشخيص نوع المرض الذي يعانونه. هل هي أزمة وطن كامل أو أمة تامة، وسط صراع خارجي كبير، وفي قلب مصالح دولية وأطماع جيرانية وعدائية، وإيديولوجيات إلغائية وأفكار شمولية، لمنطقة حكم عليهم التاريخ والجغرافيا بالوقوع وسطها والإبحار في عواصفها الدائمة والعيش اليومي على أطراف حقول ألغامها؟ أم أنها قضية جماعات تامة ــ اسمها طوائف ــ حول كيفية انتظامها في تشكيل اجتماعي ــ سياسي اسمه دولة واحدة، وحول تشاركها مفهوم السلطة الضرورية لأي دولة كهذه؟ أم هي في الأساس والأصل مشكلة فرد ومواطنة ورواسب متجمعة من الإيمان إلى السيكولوجيا المجتمعية إلى السوسيولوجيا الدينية، جعلت من هؤلاء البشر مجرد أعداء جاهلين لأعداء مجهولين، هم في الفعل والواقع، مجرد شركاء لهم في وطن واحد، على قاعدة جاهلية بسيطة أن الإنسان عدو لما يجهل؟ أي باختصار، هل هي قضية لبنان في محيطه، أم حرب لبنان في جماعاته، أم مأساة لبنان في إنسانه؟ إشكالية جليٌّ أن اللبنانيين عاجزون عن تشخيصها، حتى الفوضى الفكرية المطلقة. فوضى تجعل من ألم أحدهم ملهاة لآخر، ومن دم واحدهم فرحاً لشريكه، وتجعلهم بالتالي يكررون معاناة آلامهم وهرق دمائهم بلذة كانيبالية.

ثانياً، أن اللبنانيين، في مكوناتهم تلك كافة، يعيشون أزمة أخرى. ذلك أن عجزهم عن تشخيص أزمتهم، يستولد عجزهم الملازم عن تقديم الحلول لها. وهو عجز تجلى على نحو واضح في المستويات الثلاثة التي حاولوا استنباط الحلول منها، وتناوبوا على طرحها عبر كل تاريخهم الحديث والمعاصر، إذ ليست مصادفة أن كل مكون منهم، وعلى مدى نصف القرن الماضي على الأقل، تقلب بين ثلاثة آفاق للحل. حيناً يكون الحل بمواجهة الخارج وتدخله وهيمنته واحتلاله وسيطرته. أو مفهوم المقاومة المتنقل لدى كل اللبنانيين، بحسب هوية الخارج وجهته. وحيناً يكون البحث عن الحل في نظام لبناني جديد منشود، يؤمن تعايش الجماعات معاً، بعدالة وتوازن وشراكة وكرامة. وهو مفهوم الإصلاح الذي تداول اللبنانيون كافة على حمله أيضاً. وحيناً يكون الحل بالبحث عن بناء الدولة وترسيخ المواطنة وتكوين الإنسان وتعميم الوعي وثقافة الشخص المسؤول ومحاربة الفساد والإفساد ومزرعة الدولة… إلى آخر مجموعة الأهداف الفردانية لخطاب سياسي دار بدوره على الجميع.

هكذا يظهر، أن أزمة التشخيص انعكست على نحو واضح في أزمة تقديم الحل. فحين يكون تشخيص الأزمة تهديد الخارج، يكون الجواب مقاومة. وحين يصير التشخيص هيمنة الشريك، يتحول الحل ثورة على النظام. أما حين يتواضع التشخيص ليطاول عقلية الفرد، فيصير مشروع المواطنة والحداثة والمعاصَرة هو العلاج. وفي الحالات الثلاث ضاع الجميع وأضاعوا نصف قرن وشبه وطن.

تبقى أزمة ثالثة، تكشفها تلك الواقعة البسيطة. أن اللبنانيين، بمعزل عن أزمة قراءتهم لأزمتهم، وفضلاً عن أزمة اقتناعهم بالحلول المثلى لها، لا يزالون يعيشون أزمة أكثر عمقاً. هي أزمة التزام. حتى من يتوهم منهم أنه أدرك الداء، وعرف الدواء، لم يلتزم يوماً آلية تنظيمية جماعية وطنية واضحة ناجعة، تجعل من دوائه شفاءً لوطن. هنا تصير المسألة أقرب إلى أزمة قيم، وأزمة أخلاق، وأزمة كائن مجتمعي مسؤول، بدل أن يكون كائناً فطرياً قزماً أكولاً حلوباً مكتفياً من الحياة ببعض سخرية من آلام نخبته المناضلة، وبكثير من الانتفاع من جلاديه.

قد لا يكون الأمر غريباً ولا مستغرباً بحسب منطق التاريخ. فهو يعلّم أن وحدها النخب تقود الشعوب. لا بل وحدهم متهمو الجنون يسيرون به صوب حركيته الأكثر عقلاً وتعقلاً.