بعد مقالة أمس الأول الثلاثاء 17 – 2 – 2015 في قراءة ومحاولة تحليل وثيقة “استراتيجيّة الأمن القومي – شباط 2015” الصادرة عن الرئيس الأميركي باراك أوباما، هنا حلقة ثانية اليوم تضع ملاحظات على بعض الاختلافات والتشابهات بين هذه الوثيقة والوثيقة السابقة عليها حول “استراتيجية الأمن القومي- أيار 2010” الصادرة أيضاً عن البيت الأبيض.
هذه المقارنة تنطلق طبعاً من حساسيّة شرق أوسطيّة أساسا سعياً وراء رصد صورة منطقتنا من جهة وموقعها في الرؤية الأميركية لمناطق العالم الأخرى من جهة ثانية.
من الطبيعي أن تكون هناك فروقات أساسيّة بين وثيقتيْ “استراتيجيّة الأمن القومي 2015″ و”استراتيجيّة الأمن القومي 2010” ولو كانتا صادرتين عن رئيس أميركي واحد هو باراك أوباما في ولايته الثانية وباراك أوباما في ولايته الأولى، لأن خمس سنوات فاصلة بينهما شهدت تحولاّتٍ أو تبلورت فيها تحولاتٌ هامة ولو لم تكن فترة كافية حتى بالنسبة لدولة عظمى لصناعة تاريخ جديد قاطع مع ما سبقه من نوع الفارق مثلاً في التسعينات بين “الحرب الباردة” وبين سقوط الاتحاد السوفياتي، وأحيانا ولادة مناخ عالمي جديد خلال أشهر قليلة وحتى أسابيع كتلك الفاصلة بين ما قبل انهيار جدار برلين وما بعده عام 1989.
بين 2010 و2015 يمكننا أن نرصد بعض متغيّرات لا جدال بأهمّيتها حتى لو أن بعضها غير مكتمل أو قاطع مع ما قبله:
1 – في الوثيقة الجديدة صار بإمكان البيت الأبيض أن يعلن أن الولايات المتحدة الأميركية أصبحت المنتِجَ الأول للنفط والغاز في العالم وهذا الوضع هو حصيلة جهود جيل من العلماء الأميركيين أنتج التكنولوجيا الجديدة التي ساهمت بالوصول إلى هذا الوضع.
2 – أية صلة بين هذه الحصيلة الاقتصادية الأميركية الجديدة واللهجة الأقوى التي نجدها ضد روسيا في الوثيقة الجديدة وبين اللهجة الأنعم أو الأقل هجوميّةً التي نجدها في الوثيقة القديمة ذات النفَس التعاوني أكثر مع موسكو؟ مع أن ملامح سياسة الرئيس فلاديمير بوتين الصارمة في وجه الامتداد الغربي كانت قد اتّضحتْ في جورجيا عام 2008 وفي رفض نشر صواريخ الناتو في شرق وجنوب أوروبا قبل 2010 لكنْ لم يكن الهجوم السياسي الغربي في أوكرانيا قد نجح بعد؟
3 – في النصف الأول من عام 2010 عندما صدرت الوثيقة الأولى كان النظام العربي الإقليمي يبدو مستقرّاً بين مجموعة أنظمة سلطوية قوية ستبدأ بالتساقط في نهاية العام انطلاق من تونس فمصر. لذلك كانت صياغات وثيقة 2010 أكثر دعويّةً حول الديموقراطية بينما هي في وثيقة 2015 أكثر تعقيداً بعد تجربة التحولات العربية من حيث هاجس البحث عن المواءمة بين الديموقراطيّة والاستقرار مع ظهور تفكّك العديد من دول المنطقة والمثال على ذلك تأكيد الموقف النقدي في الوثيقة لنظام (الرئيس بشّار) الأسد في الوقت نفسه الذي تسمّي فيه الوثيقة ما يجري في سوريا “حرباً أهلية” وتعتبر أن الحلَّ الوحيد لها هو سياسيٌّ.
4 – في ملف الإرهاب كان تنظيم “القاعدة” هو “أنتي بطل” وثيقة 2010، بينما “تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش) هو “الأنتي بطل” الآخر المتلازم ذكره مع ” القاعدة” في معظم الأحيان ووحده حيناً في وثيقة 2015.
5 – صدرت وثيقة 2010 التي أكّدت طبعاً على اجتثاث قيادة ” القاعدة” في 2 أيار من ذلك العام. ستنجح قوات أميركيّة خاصة، كما أُعلن، في قتل أسامة بن لادن في باكستان بعد عام أي في أيار 2011. كان هذا إنجازاً تباهت به الوثيقة الجديدة كما تباهى به الرئيس أوباما مراراً منذ ذلك الحين. هذا إذن، بمعزل عن قيمته الاستراتيجية الفعلية، عمل ذو أهميّة دعائيّة لاجدال فيها مع أن السنوات اللاحقة لم تُظهِر استمرار انتشار “القاعدة” فحسب، بل أظهرت أيضاً أن تنظيماً وحشيّاً ربما أسوأ وُلِد بعده وهو “داعش” مع أنه يجب تسجيل قدرة الأميركيين على منع أي عمل إرهابي للأصوليّة الإسلاميّة المسلّحة على الأراضي الأميركيّة منذ ما بعد أحداث 11 أيلول 2001. لكن الفعالية الإرهابية تهدِّد وتطال أوروبا اليوم ناهيك عن العالمين العربي والمسلم.
6 – بعكس الانتقال السلبي للهجة الوثيقة الجديدة ضد موسكو وتسميتها بشكلٍ مركّز “عدوانيّة”، فإن اللهجة حيال إيران وإن احتفظت بمضمونها التفاوضي الضاغط حول الطموح العسكري النووي الإيراني… هذه اللهجة أصبحت أهدأ.
كُتبتْ وثيقة 2010 في أجواء الأزمة الضخمة التي تعرّضت لها مؤسّسات ماليّة أميركيّة ضخمة في “وول ستريت” والسوق العقاريّة. بينما كُتبت الوثيقة الجديدة في أجواء مؤشّرات نجاحات اقتصاديّة أميركيّة كبيرة. أيضا كانت نتائج التورّط الأميركي البرّي في عدد من الحروب ولا سيما في العراق وأفغانستان لا تزال ضاغطة على الرئيس الأميركي في وثيقة 2010 بينما في وثيقة 2015 باستطاعة الرئيس أن يشدّد على الخيارات السلمية وفعاليّة العقوبات مع لازمة شكلية هي عدم التخلّي عن الخيار العسكري في حالات الضرورة القصوى “إذا تهدّدت المصالح الأميركية الحيويّة” وهي اللازمة الأخرى المترافقة معها.
ملاحظة ثقافيّة أخيرة في هذه العجالة:
الوثيقتان القديمة والجديدة “هانتغتونيّتان” ■. عام 2010 أعلنت “استراتيجية الأمن القومي” أن الحروب الأيديولوجية حلّتْ مكانَها الحروبُ الدينيّة. إذن نحن في عهد أوباما وعصر هانتنغتون. وهذا أحد المستويات الأكثر تأثيراً في نهايات القرن الماضي وبدايات القرن الجديد للتفاعل الخطير بين الاستراتيجيّة السياسيّة وبين الثقافة السياسيّة.
■ المفكّر السياسي صامويل هانتنغتون صاحب المقولة – دراسة “صدام الحضارات” ومؤلّف كتاب “النظام السياسي في مجتمعات متغيِّرة”.