للوهلة الأولى، يبدو العماد ميشال عون عيناً والنائب سليمان فرنجية عيناً أخرى في وجه واحد. إلا أن التدقيق في برنامج ترشيح كل منهما ومن يقف خلفه وأمامه وتداعيات انتخابه، يؤكد أن المسافة الفاصلة بين العينين أكبر من أن يسعها أي وجه مهما بلغت درجة الحَوَل. ولا بدّ، بالتالي، من جراحة تعيد وجه 8 آذار إلى حالته الطبيعية
نجح تبني رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، ترشيح العماد ميشال عون في تحقيق غايته، لجهة وضع عراقيل جدية في طريق المبادرة الحريرية الأخيرة. فالمبادرة الباردة كانت آيلة إلى التجميد، في انتظار لحظة إقليمية تتيح للقوى السياسية انتخاب سليمان فرنجية رئيساً، بعد تجاوزها العراقيل السياسية. إلا أن تلاقي عون وجعجع على رفضها مثّل عرقلة مذهبية يصعب تجاوزها.
وبما أن الوقوف أمام ترشيحي فرنجية وعون يثير ارتباكاً حقيقياً، واختيار الأفضل ليس مهمة سهلة، فمن الواضح أن الرئيس نبيه بري والنائب وليد جنبلاط لا يريدان أن «يطحشا» بفرنجية ولا إعلان الحرب على لقاء معراب، ليضمنا التوازن بين فرنجية وعون أطول وقت ممكن، آملين أن يستنزف المرشحان بعضهما. في المقابل، نجح التيار الوطني الحر في الأيام القليلة المقبلة في احتواء غضب جمهوره من فرنجية، وتراجعت كذلك النقمة المردية المعلنة على عون. وعادت «نمنمة» الحليفين بعضهما على بعض إلى نغمتها المنخفضة السابقة.
في مقارنة بين الرجلين، أولاً، إن تموضع فرنجية في ترشيحه خلف تيار المستقبل وبري وجنبلاط جعله مجرد غطاء لترويكا السلطة التي عاثت فساداً ربع قرن. وهو، في إطلالته التلفزيونية وغيرها، تجاهل قرف الرأي العام، خصوصاً غير المستفيدين، من هؤلاء، فأكّد كل ما من شأنه ترسيخ الاعتقاد الشعبي بأن مهمته الرئيسية تثبيت هؤلاء في مقاعدهم والسهر على استقرارهم ربع قرن آخر بدل إقلاق راحتهم. أما العماد عون، فلا يزال يظهر ترشيحه بوصفه مرشح تكتل التغيير والإصلاح أولاً وحزب الله ثانياً والقوات اللبنانية أخيراً. ورغم فشل عون وحزب الله في تقديم حلول إصلاحية أو تحقيق تغييرات إدارية واقتصادية جذرية، إلا أن أداءهما والقوات كان مختلفاً عن أداء الحريري ــــ بري ــــ جنبلاط. وبالتالي، إن القوى السياسية المرشحة لعون أقل استفزازاً بكثير من تلك المرشحة لفرنجية. علماً أن ما يؤخذ على جعجع لناحية «بطولاته» الحربية، يمكن تسجيله على بري وجنبلاط أيضاً. وكل من يزين، بالتالي، القوة المرشحة لعون وفرنجية سيسجل بسهولة نقطة لعون.
ثانياً، اختصر فرنجية برنامجه الرئاسي بتأمين الكهرباء ولمّ النفايات وتقديم حلول لأزمة السير وغيرها، موفراً على اللبنانيين مشقّة الحلم أقله بمحاسبة المسؤولين عن أوضاعهم وتقديم بدائل أخرى. وكأن كل المطلوب اليوم هو تجديد عقدي «سوكومي» و»سوكلين» واستدانة بضعة مليارات أخرى لزيادة ساعات ضخ الكهرباء وتسوّل مزيد من الهبات لاسترضاء المقاولين المتعاقدين مع الهيئة العليا للإغاثة ومجلس الجنوب وصندوق المهجرين ومجلس الإنماء والإعمار. في المقابل، ورغم أن الحملات الإصلاحية لعون لم تفض إلى أي نتيجة، وهو وضع «الإبراء المستحيل» جانباً منذ أكثر من عامين وتبين عدم مبالاته بملاحقة «سوكلين» حتى النهاية وتسليمه بشروط المحاسبة تحت سقف النظام التي تتخذ طابع التسويات أكثر من أي شيء آخر، إلا أنه يواصل مع ذلك رفع الشعارات الكبيرة التي تدغدغ آمال كثيرين بتحقيق اختراق ما. وهذه الآمال هي ما تُبقي كثيرين في البلد من جهة، وتوفر الأصوات اللازمة للعونيين للحؤول دون تفرد الحريريين وشركائهم بإدارة البلد من جهة أخرى. ولا شك هنا أن المنتفعين من بري والحريري وجنبلاط سُرّوا بانتخاب رئيس يشاركهم عقيدة الحكم، إلا أن كثيرين تخيلوا بخوف، في المقابل، ما يمكن أن تبلغه الأوضاع إن أمسك هؤلاء برئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء والمجلس النيابي في الوقت نفسه. والسؤال الرئيسي يتعلق هنا ببحث اللبنانيين عن رئيس يريح البلد بمعنى تسهيل الاستيلاء على ما بقي من فتاته، أو رئيس يوجع الرأس بمعنى تنكيد عيش الحريري وبري وجنبلاط وتعطيل الجزء الأكبر من صفقاتهم.
ثالثاً، اعتقد فرنجية أن ثلاثي الحريري ــــ بري ــــ جنبلاط يكفيه لولوج بعبدا، رغم وجود أكثر من مرشح جامع لهؤلاء يراوح مكانه منذ سنوات. أما عون، فسعى إلى حشد التأييد الطائفي لترشيحه بحيث تصبح المعادلة كالآتي: مرشح الطوائف المسيحية المدعوم من حزب الله في مواجهة مرشح الطائفة السنية. وفي ظل التناغم السياسي بين عون وفرنجية، بات السؤال الرئيسي عمّا يحول دون انتخاب المرشح الأكثر تمثيلاً مسيحياً. علماً أن الفرصة سنحت لفرنجية لحشد تأييد البطريركية المارونية والرهبانيات وعدد كبير من المطارنة الذين يتأثرون بصداقات فرنجية من جهة ويدورون في الفلك الحريريّ من جهة أخرى، لكنه لم يبال قطّ بتأمين حاضنة مسيحية لترشيحه، في ظل مواصلة الزعامة الزغرتاوية الاعتقاد بأن الموقف المسيحي الموحد عاجز عن الوقوف في وجه ثلاثي الحريري ــــ بري ــــ جنبلاط من جهة والتسويات الإقليمية من جهة أخرى. وهم يستندون في هذا السياق إلى مجموعة تجارب ــــ لم يكن فيها المسيحيون موحدين ــــ أفضى فيها العناد المسيحي إلى نتائج كارثية.
النقطة الرابعة في المقارنة هي الأولى غالباً في أحاديث المواطنين، لكن نادراً ما يجري التطرق إليها في الإعلام: سنّ الجنرال الذي بلغ 83 عاماً. فالنائب فرنجية في الخمسين من عمره ولديه شبكة علاقات تتيح لجمهور 8 آذار الاطمئنان إلى رسوخ نفوذهم في مواجهة القوات اللبنانية لعقد مقبل وأكثر، في وقت سيلعب فيه التوريث السياسي ومنطق العائلات السياسية دوراً كبيراً في تحفيز فرنجية على الخروج من بعبدا بقوة أكبر مما دخلها، بعكس العماد عون الذي سيحقق في وصوله إلى بعبدا كل ما طمح إليه ولن يسعى بعدها إلى شدّ عصبه واستقطاب جمهور وحساب حساب القوات أو غيرها.
سعي عون لحشد التأييد الطائفي لترشيحه فيما لم يبال فرنجية بتأمين
حاضنة مسيحية
وفي السياق نفسه، ثمة ملاحظة رئيسية يتكئ عليها المناوئون لوصول الجنرال إلى بعبدا تقول إن الوزير جبران باسيل سيكون صاحب النفوذ الأكبر في عهد الجنرال، والمقارنة الفعلية المطروحة على حزب الله وغيره هي بين فرنجية وباسيل، لا فرنجية والجنرال. علماً بأن تيار المستقبل والرئيس بري يختاران فرنجية إذا خيروا بينه وبين باسيل. وتجدر الإشارة هنا إلى أن المرديين كانوا يعيبون على العونيين انبهارهم بالرئيس سعد الحريري وسعادة باسيل المفرطة بدراجة الحريري النارية إلى حد التقاط صورة فوقها وهي متوقفة في كاراج منزل الحريري في جدة، إلا أن متابعة المرديين أنفسهم تبين اكتشافهم أخيراً ذكاء نديم قطيش وأخوته ولمعتهم. والكارثة الحقيقية تكمن في وجوه وأسماء النواب الذين سيضطر الحريري إلى تعدادهم للقول إن عون وجعجع لا يحتكران التمثيل المسيحي.
النقطة الخامسة والأخيرة تتعلق بالتداعيات الشعبية لانتخاب فرنجية أو عون رئيساً. بعيد التطورات اللاحقة لترشيح الحريري فرنجية، سيعتبر أنصار المستقبل وحركة أمل والحزب التقدمي أنفسهم منتصرين في حال انتخاب فرنجية، فيما سيعتبر أنصار التيار الوطني الحر والقوات وحزب الله أنفسهم مهزومين رغم حب جمهور حزب الله لفرنجية. فتحدي هذا الجمهور بات إيصال عون وليس الفوز بالرئاسة. وفي حال انتخاب عون رئيساً سيعمّ الحداد أجزاءً واسعة من زغرتا بضعة أيام وينكّس النواب بطرس حرب وهادي حبيش وفريد مكاري والنائبان السابقان فريد هيكل الخازن وسمير عازار الأعلام التي رفعوها، إلا أن جمهور المردة سيستعيد أنفاسه آجلاً أو عاجلاً ليواصل تطلعه إلى رئاسة الجمهورية. أما إقصاء عون، فيعني أن أكثرية مسيحية عجزت مرة أخرى عن إيصال مرشحها رغم كل التضحيات، وحجم التمثيل العوني المضاعف عدة مرات للتمثيل المردي سيجعل الحداد الشعبي كبيراً جداً. علماً بأن الوقوف ولو على قدم واحدة كان ممكناً غداة الضربات السابقة لوجود أمل عوني دائم بوجود فرصة ثانية، لكنها الفرصة الأخيرة بالنسبة إلى هذا الجمهور.
المقارنة التي تميل كفتها لعون هي ما تجعل فرنجية مرشحاً جدياً وقوياً إلى رئاسة الجمهورية. مرشح تيار المستقبل وبري وجنبلاط يقدم برنامج حكم يتناغم مع مصالح الطبقة الاقتصادية ــــ السياسية ــــ الاجتماعية الحاكمة، ولا يلوح بحقوق مهدورة أو تصحيح التمثيل أو غيره مما يوجع عون به رأس المستقبل، ولا يمثل انتخابه نصراً لحزب الله الذي لم يفهم كثيرون أن التزامه الأخلاقي يتقدم بعدة نقاط التزامه السياسي.