لعلّها من المرات القليلة التي تصل فيها حملة مكافحة الفساد بهذا الزخم الى قلب الصرح القضائي، بعدما كان الاقتراب منه نوعاً من «التابوهات» المتعارَف عليها. حتى الأمس القريب، كان معظم المتعاطين في الشأن العام يتهيّبون توجيه الاتهامات الصريحة الى أيّ قاض، أو وضعه ضمن دائرة الشبهات. الآن، تبدلت الصورة، ولم يعد الخوض في هذا الشأن من المحظورات.
من البديهي القول إنّ الاصلاح الحقيقي غير ممكن من دون مواكبة القضاء، حيث تصب الملفات وتتم المساءلة ويُعاقَب المرتكبون ويُنصف الابرياء، وبالتالي كلما كان الجسم القضائي محصناً ونزيهاً تصبح نتائج محاربة الفساد تلقائياً أكثر جدية وصدقية.
وليس خافيا ان الدم الذي يجري في عروق السلطة القضائية في لبنان يعاني من نقص حاد في «كُرَيات» الاستقلالية، بفعل التدخلات السياسية النافرة التي تبدأ من تعيين قضاة وفق معيار الولاء، ولا تنتهي عند حدود التأثير في مسار الملفات والأحكام تبعاً لمصالح أصحاب القرار والنفوذ.
ولعلّ التحدّي الكبير الذي يواجه السلطة المتحمّسة للإصلاح طوعاً أو قسراً، انما يكمن في ترك القضاء يعمل وفق قوة دفع ذاتية، من دون أن تُفرض عليه «إحداثيات» سياسية، تحدّد له الاهداف والسقوف مسبقاً. ومن غير المعروف ما إذا كانت الطبقة السياسية باتت مستعدة جدياً للتخلي عن «امتيازاتها» على هذا الصعيد، أم أنها ستكتفي بتغيير تكتيكاتها فقط، على قاعدة الانحناء الإضطراري أمام العاصفة في انتظار مرورها.
كما أن الجسم القضائي بدوره مُطالب بالتخفيف من فائض «كبريائه» وحساسيته، والتحلي بشجاعة التخلص ممّن يشكلون إساءة اليه وعبئاً عليه، في داخل صفوفه، وبالتالي فهو يجب ان يكون الأشد تحمّساً لإلقاء «الحمولة الزائدة» التي تثقل كاهله، بدلاً من ان تعطي بعض أوساطه إشارات امتعاض.
وتشكو شخصية نيابية من تجميد دعاوى جزائية رفعتها، منبهة الى ان الفساد القضائي هو الأخطر والأفدح على الإطلاق، لأن القاضي يستطيع من خلال موقعه المفصلي ان يحوّل الحق باطلاً والباطل حقاً، ومشيرة الى انه يجب الاعتراف بأن الفساد تغلغل الى خلايا الجسم القضائي نتيجة التدخلات السياسية التي فعلت فعلها.
وقد خاضت هذه الشخصية مواجهة مباشرة وحادة مع أحد القضاة الاساسيين، مشيرة الى أنها عانت شخصياً من تجربة مرّة وقاسية على هذا الصعيد، وانها اختبرت بنفسها واحداً من أسوأ نماذج السلوك القضائي.
وتكشف الشخصية النيابية انّ قاضياً كبيراً «استخدم نفوذه لتجميد دعاوى رفعتها منذ خمس سنوات تقريباً، وذلك وفق مقتضيات حساباته الخاصة وارتباطاته السياسية»، موضحة «ان هذا القاضي المؤثر كان يتدخل مباشرة لدى القضاة الذين كانوا يتولون الملفات المحالة اليهم، طالباً منهم إدارتها في الاتجاه الذي يريده هو، وأنّ هؤلاء كانوا يخضعون الى ما يُطلب منهم، انصياعاً للتراتبية الوظيفية، كونهم يعملون تحت رئاسة المرجع القضائي».
وتؤكد الشخصية السياسية نفسها، انّ قاضياً أقرّ أمامها بأنه اضطر الى الامتثال لطلبات المرجع القضائي المشار اليه، على حساب اقتناعاته، لأنه ليس قادراً على مخالفة إرادة مَن هو أعلى منه في الهرم الوظيفي.
وتروي تلك الشخصية انها اتصلت هاتفياً بالقاضي الرفيع المستوى، واتهمته بتحريف الحقائق والضغط على بعض القضاة للتأثير على سلوكهم وقراراتهم، كاشفة أنها استخدمت لهجة حادة جداً في مخاطبته وتوجّهت اليه بأقسى العبارات والالفاظ، «إلّا انّ المفارقة تمثلت في انّ القاضي المشكو منه التزم الصمت على الخط الآخر من الهاتف، ولم يحرّك ساكناً في مواجهة الكلام القاسي الذي سمعه مني، ما يؤشر الى انه كان يعرف أنني على حق».
وتلفت الشخصية إياها الى انّ وزير عدل سابقاً اتصل، اثناء ولايته الحكومية، بذلك القاضي الكبير، وطلب منه التصرف بنزاهة وحيادية، «لكن ما ان أقفل الخط حتى عادت حليمة الى عادتها القديمة، وبالتالي استمر الانحياز والتهميش في التعامل مع الدعاوى المقدّمة من قبلنا، تحت تأثير الضغوط السياسية التي كان يستسلم لها بعض المؤتمنين على العدالة».
وتوضح الشخصية النيابية انها تقدمت مجدداً، قبل أشهر قليلة، بإخبار حول اختلاسات مالية، «إلّا انّ مصيره كان أيضاً النفي الى الأدراج وإهماله، من دون تقديم أيّ تفسير مقنع لذلك».
وتعتبر الشخصية النيابية انّ «من الواجب محاسبة أيِّ قاض فاسد مهما علا شأنه، حتى يكون درساً لمن يعتبر، ولئلّا يتجرّأ أيُّ قاض مستقبلاً على تكرار الارتكابات، متسلّحاً بالحصانة السياسية والطائفية»، آملة في «أن تستمرّ معركة مكافحة الفساد القضائي التي تخاض حالياً حتى تنقية قصور العدل من أيِّ خلل او انحراف، واستعادة الثقة في السلطة الأهم في لبنان.