جرياً على لغة الوعيد التي اعتادها المسؤولون في لبنان لوضع حدث ما في مصاف التحوّلات الكبرى، عن طريق التمييز بين ما قبله وما بعده، أقول أنّ ما قبل الساعة الواحدة من بعد ظهر أمس ليس كما بعده. فبعد أن كان الجميع بانتظار ما سيعلنه رئيس المجلس عن جلسة الخامس من حزيران إثر انتفاء أيّة معلومة عن توقيع رئيس الجمهورية مرسوم افتتاح عقد استثنائي، أخرج الرئيس نبيه بري من سترته هذه المرة أرنباً دستورياً، يقضي بعدم جواز تخفيض مدة العقدين العاديين للمجلس النيابي وبالتالي فإن استخدام الرئيس عون للمادة 59 من الدستور، وتأجيل انعقاد المجلس لمدة شهر، لا يجيز تقصير مدة العقدين وبالتالي فالعقد العادي مستمر حتى نهاية ولاية المجلس النيابي، مع إمكانية إضافة الفائض من الأيام الى العقود العادية للمجلس الجديد، مستنداً في ذلك إلى إجتهاد دستوري لحالات مماثلة حصلت في فرنسا التي استقينا منها مواد دستورنا. الأرنب الدستوري أسقط الواحد والثلاثين من الشهر الجاري كتاريخ مفصلي، فأضحى موعد إحالة مطرقة الرئيس بري على التقاعد تمهيداً لإنتهاء صلاحية المجلس النيابي «برمّته بعيداً على قربٍ قريباً على بعدِ» كما يقول إبن الرومي في رثاء ولده محمد..
لا تستطيع كلّ اللياقات ومفردات التهذيب السياسي التي استخدمها الرئيس بري إخفاء حالة المساكنة القسرية بين رئاسة الجمهورية والمجلس النيابي وتحديداً رئيسه، مهما بالغنا في تطويع المقولة اللبنانية « إنّ ما قبل الإنتخابات الرئاسية ليس كما بعدها» . فمحاولات احتواء المؤسسة التشريعية لم تتوقف، بل بلغت حدّاً وضع البلاد على حافة الإنفجار، وذلك جرياً على القاعدة التي استعملت في مجلس الوزراء سواء بالإمتناع عن مناقشة بعض بنود جدول الأعمال أو بالإمتناع عن توقيع مراسيم دعوة الهيئات الناخبة وهيئة الإشراف على الإنتخابات أوتجيير رئاسة جلسات الحكومة، بما يخالف الدستور بشكل صريح. استخدام المادة 59، لا يمكن اعتباره تدبير حثّ كما حاول البعض تبريره، إذ كيف يعقل أن يُحثّ المجلس النيابي على التشريع بتقصير عقده التشريعي!!!!!؟؟؟؟، ناهيك باستهلاك المُهل الدستورية. كلُ ذلك في سبيل إنتاج ظروف ضاغطة لإقرار قانون للإنتخابات أقلّ ما يقال فيه أنّه ايقظ الشياطين الراقدة وأعادنا إلى صراع طائفي انطلق في ثلاثينيات القرن الماضي وأجّج الحرب الأهلية وأدى إلى ما أدى إليه…..
هل يمكن توظيف ما يجري على الساحة اللبنانية في الصراعات الإقليمية؟ أو بشكلٍ آخر هل يمكن اعتبار إنّ ما يجري في لبنان هو إسقاط لحراكٍ إقليمي انطلقت عجلته بعد زيارة الرئيس ترامب الى المملكة العربية السعودية، وصدور البيان الشهير عن القمّة العربية الإسلامية الأميركية بمشاركة خمس وخمسين دولة، والذي تجلّى بالشراكة المتجدّدة بين الولايات المتّحدة وحلفائها التقليديين وبتزايد النشاط الأميركي على الحدود السورية العراقية وفي الشمال السوري، وبإصرار الحكومة العراقية على بقاء القوات الأميركية في العراق بعد تحرير الموصل وانتقال مصر إلى موقع المبادرة بقصف مواقع للإرهاب خارج حدودها؟؟
هل يمكن إعتبار ما شهدته البحرين بالإضافة إلى تصاعد التوتر في العلاقات القطرية الخليجية، بصرف النظر عن التبرير القطري بالإختراق الألكتروني لوكالة الأنباء القطرية، والمجاهرة القطرية بتطوير العلاقات الإيرانية وعدم الارتياح الروسي والتركي للعودة الأميركية هي ملامح لتشكل محور إقليمي جديد سبقت أن دعت إليه طهران تحت عنوان تشكيل نظام إقليمي ودولي جديد لا تشكّل القوى الغربية مركز الثقل فيه؟؟؟
إنّ القول بأنّ الساحة اللبنانية بمأمن عما يجري في الإقليم هو كلام في غير محله، كما أنّ السعي لتوظيف الساحة اللبنانية التي تحظى برعاية دولية مجدداً هو حلم لا يراود فقط جهات إقليمية، بل هناك أكثر من جهة محلية، ذات أهداف متناقضة، لا تزال مقتنعة أنّ الفوضى الخلاقة هي خيار ممكن لتحسين شروطها في المعادلة اللبنانية، في ظلّ الإندفاعة الأميركية الجديدة من جهة وتمسك ايران وحلفاؤها بمكتسباتهم التي حققوها مع الإدارة السابقة من جهة أخرى. قد يكون هذا الخيار ممكناً ولكن السؤال الكبير هو في من يمتلك الحق في لبنان بإعطاء إشارة الأنطلاق؟؟؟؟؟ من هنا فإنّ ما رمى إليه الرئيس بري لم يكن محاولة لإظهار براعته في إخراج الأرنب من سترته بل نوعاً من التذكير بعدم المغالاة في تقدير الأحجام.
وحتى كتابة هذه السطور لا يزال الصمت مخيماً على القصر الجمهوري……..