إذ أتفهّمُ نيّةَ الّذين اقترحوا تفعيلَ حكومةِ تصريفِ الأعمال، أرفُض الفكرةَ لأنّها اعترافٌ مباشَرٌ بتعذّرِ تطبيقِ الدستور، وبالتالي بسقوطِ الدولةِ اللبنانيّةِ الوِحدوية. فلا يمينًا نَذهب ولا يسارًا. ربما فَضَّل أصحابُ الاقتراحِ هذا التدبيرَ الاستثنائيَّ على الاعترافِ بتعذُّرِ تطبيقِ الدستور لأنَّ ذلكَ يُملي عليهم، استطرادًا، الإقرارَ بسقوطِ الشَراكةِ الوطنيّةِ في دولةٍ مركزيّةٍ واحدة، وبَدءَ البحثِ عن لبنانَ آخَر. لكنَّ السيد حسن نصرالله، في خطابِه الطافحِ تحدّيًا والزاخرِ جبروتًا (10/11/18)، أعفاهُم من الاعترافِ الصعبِ إذ أكّدَ، مرّةً أُخرى، وجودَ لبنانَ “آخَر” غيرِ لبنانَ القائمِ وغيرِ لبنانَ “الآخَر” الذي نَصبو إليه.
كلبنانيٍّ لم تَعُد هذه الدولةُ تُشبهني، وكمسيحيٍّ لم تَعُد هذه الصيغةُ تناسبني، وكمُسلمٍ أتعَبني الصراعُ السُنّيُ/الشيعيّ، وكإنسانٍ سئمِتُ الخِطاباتِ الحربيّة، وكعَلمانيٍّ، أحومُ غريبًا في مَتحفِ تماثيل. لكنْ، أرادوها معركةَ حكومةٍ، فلتكن معركةَ وطن، وهي أصلًا كذلك. لا نَـخَف. ومِـمَّنْ نَخاف؟ نحنُ أربابُ الصمودِ وأسيادُ المقاومةِ، نحن روّادُ الحرّيةِ وسكارى الكرامةِ، نحن آباءُ الكيانِ وأبناءُ الدولةِ. الجِبالُ تَعرفُ خَبْطَ أقدامِنا، والبحارُ تتذكّرُ ضَرْبَ مَجاذيفِنا، والسهولُ تَحِنُّ إلى معاولِنا، والقِممُ مَحطُّ راياتِنا، والأضرِحةُ تَضجُّ بشهدائِنا.
ويُخطئُ، يُخطِئُ أيُّ فريقٍ لبنانيٍّ يَظنُّ، لحظةً، أنّه قادِرٌ على شنِّ حربٍ توسعيّةٍ ضِدَّ لبنانيّين آخَرين. أيُّ مسٍّ عسكريٍّ بالاستقرارِ سيؤدّي إلى مضاعفاتٍ إقليميّةٍ ودوليّة. فلبنانُ، للتذكيرِ، أهمُّ للتحالفِ الأوروبيٍّ ـــ الأطلسيٍّ من إدلب. وتوجدُ مجموعةُ قراراتٍ أمميّةٍ تُغطّي أيَّ مبادرةٍ دوليّةٍ لحمايةِ لبنان: من القرارِ 1559 وصولًا إلى القرارِ 1701.
إذَن، ليست الأزمةُ الحكوميّةُ في لبنان سوى انعكاسٍ للخلافِ على لبنان. وحتى لو تألّفت الحكومةُ السنةَ المقبلةَ، فلبنانُ الذي ألِفْناهُ لن يَتألّفَ من جديد. وما التنافُسُ على الصلاحيّاتِ سوى صَدى الخِلافِ على ميراثِ الوطن. لذا، لا قيمةَ لصلاحيّاتِ المؤسّساتِ الدستوريّةِ بأسْرها طالما أنَّ صلاحيّةَ الوطنِ بحدِّ ذاتِه انتهَت. كفى كذِبًا.
إنَّ لبنانَ منقسِمٌ حاليًّا بين لبنانيّين يؤمنون بلبنانَ حرٍّ، سيّدٍ، مستقلٍّ، ديمقراطيٍّ، راقٍ، قويٍّ، مسالـِمٍ، عصريٍّ، متفاعِلٍ مع الحضارات، وهؤلاء يَنتمون إلى جميعِ الأديانِ والطوائفِ والمذاهبِ والمناطق؛ وبين لبنانيّين آخَرين متعدِّدي الولاءاتِ يريدون لبنانَ كِيانًا أسيرًا، تابعًا، عسكريًّا، مُنغلقًا، متخلّـفًا، رَجعيًّا، حَجَريًّا، عِدائيًّا، موصَدًا على الحضارات، وهؤلاءِ أيضًا متنوِّعو الانتماءات. هكذا نَشهدُ عمليًّا تموضُعًا حضاريًّا جامعًا بموازاةِ الانقسامِ الطائفيِّ المستَعِر. لكنَّ هذا “المكوّنَ الحضاريَّ” هو حالةٌ اجتماعيّةٌ لا طاقةً وطنيّةً ناشطةً وقادرةً على التغييرِ وردِّ الحياةِ إلى لبنانَ وإلى الشَراكةِ التاريخيّة.
شراكةٌ؟ أين هي بعد؟ أكانت الشراكةُ مع تعدّدِ الولاءات؟ أَكانت الشَراكةُ بوجودِ السلاحِ الفِلسطينيِّ والسلاحِ السوريِّ والسلاحِ الإسرائيليِّ والسلاحِ الميلشيويّ؟
انتهَت الشراكةُ منذُ سنةِ 1969 حين وقّعَ لبنانُ “اتفاقَ القاهرة”. عيبُ ذاكَ الاتفاقِ ليس فقط أنْ تَنازلَت الدولةُ اللبنانيّةُ عن سيادتِها للمنظَّماتِ الفِلسطينيّةِ، بل أنْ رَبطَ فريقٌ لبنانيٌّ استمرارَ الشراكةِ الوطنيّةِ بإشراكِ طرفٍ غيرِ لبنانيٍّ فيها. وبَدأت الجُلجُلة…
انتهَت الشراكةُ لـمّا راحَ أفرِقاءُ لبنانيّون يوقِّعون شَراكاتٍ عسكريّةً مع دولٍ ومنظّماتٍ غريبةٍ ضِدَّ أفرِقاءَ لبنانيّين آخرين. والجميعُ وَقَّعوا. الفارِقُ الوحيدُ أنَّ البعضَ وَقّع للسيطرةِ على غيرِه ولا يزالُ توقيعُه ساريَ المفعول، والبعضَ الآخَرَ وَقّع لحمايةِ وجودِه وسُرعان ما سَحبَه.
انتهَت الشراكةُ يومَ صار شريكٌ واحِدٌ يَستقوي على الشركاءِ الآخَرين ويُطوِّعُ الدولةَ، فيُعطِّل الدستورَ باسمِ الميثاقيّةِ، ويُبطِلُ الميثاقيّةَ باسمِ الدستورِ، ويُطيحُ الاثنينِ معًا باسمِ القوّة. انتهَت الشراكةُ يومَ اقْتنى فريقٌ واحدٌ دولةً خاصةً به، ومن خلالِـها تَحكَّمَ بالدولةِ اللبنانيّةِ الجامعة.
نتيجةً لذلك بات اللبنانيّون، اليومَ، أمامَ ثلاثِ اسْتحالات: استحالةُ استمرارِ لبنانَ التاريخيِّ (لبنانُ الكبيرُ المركزيُّ)، واستحالةُ استيلادِ لبنانَ أفضلَ في ظلِّ التوازناتِ القائمة، واستحالةُ البقاءِ في لبنانَ الحاليِّ المعلَّقِ بين الوِحدةِ النظريّةِ والتقسيمِ الواقعيّ. هذا هو جوهرُ الأزمةِ الوجوديّةِ، ومنها تَتناسلُ الأزَماتُ الأخرى.
هذه الاستحالاتُ الداخليّةُ لا تُغلِقُ الأبوابَ أمامَ الحلول، لكنها تدوِّلُها بحكمِ فشلِ اللبنانيّين في الاتفاقِ على مستقبلِ لبنان؛ كأنّنا مثلُ أزمةِ الحكومةِ: وطنٌ مُكلَّفٌ وغيُر مؤلَّف. إنَّ الدولَ الكبرى، التي ترعى حروبَ وتسوياتِ الشرقِ الأوسطِ والتحوّلاتِ التاريخيّةَ الجاريةَ على صعيدِ الكِياناتِ والأنظمةِ وحركةِ انتقالِ الشعوب، أَدركت هذه “الاستحالات الثلاث”.
إلى الآن، تَعاطت الدولُ الكبرى الصديقةُ معنا على أساسِ أنّنا شعبٌ يريدُ أنْ يعيشَ موحَّدًا، فاكتشفَت، بعدَ فشلِ كلِّ التسوياتِ بينَنا، أنّنا منقسِمون حتّى النُّخاعِ الشَّوكيِّ وتَمتصُّنا نزعةُ السيطرةِ على بعضِنا البعض. لقد أصبحت هذه الدولُ مقتنِعةً بضرورةِ مساعدةِ لبنانَ لإعادةِ ابتكارِ ذاتِه علّه يعودُ مجتمعًا ناجِحًا يُساهِم في تقدّمِ الحضارةِ العالميّةِ كما كان تاريخيًّا، ولم تَعُد هذه الدولُ تتحدّثُ كثيرًا عن “استقلالِ” لبنان، بل عن “استقرارِه”.
السنةُ 2019 ستَشهدُ اقتراحاتٍ أميركيّةً/أوروبيّةً بشأنِ لبنان لإخراجِه من “الاستحالاتِ الثلاث”. فمقابلَ “مؤتمرِ سيدر” الاقتصاديّ، يَجري التحضيرُ لــــ”مؤتمرِ سيدر” سياسيٍّ، يَلتقي مع المؤتمراتِ المطروحةِ لعددٍ من دولِ الشرقِ الأوسط. لكنَّ هذه المبادراتِ الدوليّةَ، وبسببِ بعضِ الأفرقاءِ اللبنانيّين قد تعيدُ لبنان، إلى زمنِ الحماياتِ الدوليّةِ والمعاهداتِ العسكريّة على غرارِ سوريا والعراق حاليًّا (وِحدةُ المسارِ والمصير). إنّه لأمرٌ مؤسِفٌ أنْ نَجدَ السلاحَ ـــ المرصودَ للسيادةِ ـــ يؤدّي إلى الوصايةِ عِوضَ التحريرِ.