ما بين يوبيل 75 سنة على استقلال لبنان عن الانتداب الفرنسي هذا الأسبوع، واليوبيل المئوي لتأسيس الكيان اللبناني بعد نهاية العصر العثماني وفي مطلع الفترة الكولونيالية الفرنسية، ثمة لحظة أساسية للاسترجاع، والنظر، والاعتبار، بالنسبة الى كيان لم يعد فتيّاً، لكنه مرّ بجملة اختبارات مرهقة جداً، وبخاصة في نصف القرن الأخير، مع الحرب الأهلية المُزمنة، ثم الوصاية السورية، ثم التأرجح بين التغلّب والتعطيل، أو مزيج من كليهما، في فترة ما بعد الوصاية.
أنتج اللبنانيون، حتى بانقساماتهم، مشتركات مميّزة في ما بينهم، وهذا كثيراً ما يغفله الخطاب الذي يركّز على عناصر الاختلاف. بقي أن أزمة وعي هذا المشترك بالشكل الواقعي، والصحيح، انضمّت الى أزمة عدم التمكّن من إنتاج إطار مؤسساتي لإدارة الاختلاف.
استطاع هذا البلد أن يُبقي، مع ذلك، على إطار معياري دستوري متواصل لأطول فترة ممكنة في بلد عربي، من 1926 إلى اليوم، ولم يدخل في لعبة “الدساتير المؤقتة”، بدعة الانقلابات العسكرية. مع هذا، كان المنتدب الفرنسي، المبادر الى صياغة دستور للبنان، وتحويله الى جمهورية برلمانية، هو المبادر أيضاً الى التلاعب بالدستور، وتعليقه مراراً، والاعتباط في الانقلاب على مساحة الديموقراطية الانتخابية والتمثيلية التي يؤمّنها، ولعب هذا دوراً مفصلياً في جعل النظام الدستوري اللبناني غير قادر على التحوّل الى إطار للّعبة المؤسساتية، لعبة تداول السلطة وفصل السلطات ومراقبة البرلمان عمل الحكومة وتوطيد مرجعية القضاء كسلطة دستورية كاملة وليس فقط كجهاز تدبيري من اجهزة الدولة. الحاجة الى وصيّ، هو ما لم تتمكن التعديلات الاستقلالية في خريف 1943 من إيجاد حلّ له، إلّا على قاعدة السهر على “اجتناب الخلافات”. لكن الدساتير لا تقول باجتناب الاختلافات، ثم تُعطِّل نفسها بنفسها إن وقعت الخلافات، وهي بحكم الطبيعة بين البشر. الدساتير موجودة أصلاّ لتأطير الخلافات، منعها من تجاوز حدود معينة، ومعالجتها ضمن أطر، ضمن مؤسسات، وضمن الاستشعار المتبادل بتبدلات الزمن، اليوم لحظتي، وغداً لحظتك، وهكذا.
منطق اجتناب الخلافات لم يفعل سوى تأجيجها، وجعلها عصيّة على كل معالجة ومداواة. لم يتأمّن بهذا الاجتناب التوازن بين “المكوّنات”، بالعكس. نظر كل طرف في مرآته الخاصة الى مظلوميّته قبل أي شيء آخر، ولم يكن صعباً على كل طرف أن يُبدع في تقدير مظلوميّته، وبطوليّته، جاعلاً إصلاح وضعه هو معيار العدل والإنصاف الأول والأخير. لا يُلغي هذا واقع اللاتوازن، واقع أن حسابات الغلبة والسيطرة تحمل دمغات مذهبية أساسية، متبدّلة من مرحلة الى أخرى.
في الفترة هذه، التي يُفترض فيها أن يكون استرجاع تاريخ البلد، بين هاتين المناسبتين اليوبيليّتين، أمراً أساسياً، يعيش النظام السياسي حالة تلف مريعة جراء اجتماع حسابات الغلبة المرتبطة بالاستقطاب الإقليمي، مع منطق “اجتناب الاختلاف” واجتناب أساس الديموقراطية: أن يكون هناك رابح وخاسر، أن يكون هناك حكم له ضوابط دستورية وقانونية ومعارضة لها مساحة من الحقوق والحريات ووظيفة رقابية وتطلعات تداولية للسلطة مشروعة.
ثمة حلقة مفرغة، وخطيرة، قد تكون أول خطوة على طريق الخروج منها، وإصلاح الحال، هو التنبّه إلى أن هذا الوطن لم يعد فتيّاً، سيتخطّى عتبة 75 عاماً كدولة مستقلة، ثم يتخطّى عتبة القرن ككيان له حدود ترابية محددة. “اللبنانيون” بالشكل الذي راكمته هذه التجربة، يختلفون جميعاً، وبشكل تام، وبمسافة لامتناهية، عن التركيبة المستجمعة في عشرينيات القرن الماضي، في إطار الهندسة الفرنسية، بالدرجة الاولى، للمشرق العربي. شعب بدأ عمره يحسب بالقرن، لا يمكنه ان يبقى متردداً في انتهاج درب التأطير المؤسساتي لخلافاته، بدلاً من اعتماد ثنائية “اجتناب الاخلاف – مقاساة التغلّب”.