قبل إجراء انتخابات الرئاسة الأميركية بشهرين تقريباً، تلقى البروفيسور في جامعة واشنطن آلن ليختمان رسالة قصيرة من دونالد ترامب يهنئه فيها على حسن توقعاته لأنه أعلن عن احتمال فوزه بالرئاسة.
وفي تعليقه على ملاحظة ترامب، قال ليختمان أن المرشح الجمهوري أهمل الجزء الآخر من الاحتمال الذي أفرحه. أي الجزء الذي ذكر فيه أن الرئيس ترامب سيتعرض للمقاضاة والتشكيك في جدارته لحكم أقوى دولة في العالم.
في نيسان (أبريل) الماضي أصدر البروفيسور ليختمان كتابه الثالث عن الرؤساء الأميركيين، وفيه يحذر ترامب من أخطار الانزلاق نحو هوة العقاب الصارم من جانب الكونغرس. وفي الكتاب، وعنوانه «دعوى إلى المقاضاة»، يقول أستاذ التاريخ أن مجلس النواب الأميركي عاقب الرئيس أندرو جاكسون، ومن ثم تكرر هذا الموقف ضد الرئيس بيل كلينتون عام 1998. في حين تفادى الرئيس ريتشارد نيكسون العقاب عندما أعلن تنحيه عن الحكم. لكن الجمهور في نتيجة الأمر، لم يغفر له ولم يصفح عنه.
عقب انفجار اضطرابات «تشارلوتسفيل» في فرجينيا وظهور جماعة «كو كلاكس كلان» العنصرية، وإعلان الرئيس ترامب تعليقه المتأخر على الحودث بصورة مبهمة، هذه التطورات المتلاحقة طرحت عشرات الأسئلة في الولايات المتحدة وخارجها حول القوى التي ساعدت على وصول أول رجل أعمال إلى البيت الأبيض؟
يجمع المحللون على القول أن مظاهر الشغب والتحدي التي حصلت في «تشارلوتسفيل» لم تكن أكثر من تعبير شعبوي لتعاظم خيبة أمل الجماهير الأميركية من إخفاق النظام الذي وعد ترامب بتحقيقه. أي النظام الذي فاز في الانتخابات لأنه استقطب المؤمنين بأفكار الرئيس الأميركي الأسبق أندرو جاكسون. وقد تميزت تلك الأفكار بالتركيز على الاهتمام بالمشكلات المحلية، وإهمال الدور الخارجي المطالب بتغيير العالم من طريق بث الثقافة الأميركية.
وربما ساعد التخاذل الذي أظهره الرئيس باراك أوباما على انتشار الأفكار الجاكسونية المطالبة بتجاوز المؤسسات الرسمية العتيقة واستبدالها بهيئات جديدة تضع مصلحة البلاد في الصدارة. وكان من الطبيعي أن تؤدي هذه الشوفينية إلى اتساع تيار الناخبين الذين يؤمنون بتفوق الجنس الأبيض، ويفاخرون بتميزهم عن السود الذين حملتهم البواخر ليعملوا عبيداً في مزارعهم.
وكان من الملفت أن تظهر في حوادث مدينة «تشارلوتسفيل» شارات الصليب المعقوف النازي، وقفاطين جماعة «كو كلاكس كلان» وقبعاتهم المسننة التي تشبه القبعات المخروطية التي يعتمرها الدراويش.
وعندما قابلت جماهير الحزب الديموقراطي هذه الظاهرة المنفرة بالاعتراض والدعوة إلى اعتقال كل المشتركين في خرق القانون والنظام، ردّ المتعاطفون مع هذه الحركة بأن الثورة الأميركية كرست حمل السلاح في «إعلان الاستقلال».
وقد تكون المرة الأولى منذ سبعين سنة ينتخب الأميركيون رئيساً يستخف بعمل المؤسسات، وينتقد عملها، ويطالب بضرورة تغييرها واستبدالها. صحيح أنه تراجع عن تنفيذ غالبية مطالبه القاضية بإلغاء الحلف الأطلسي والأمم المتحدة والاتفاقات الاقتصادية مع كندا واليابان والصين… لكن الصحيح أيضاً أن سياسته الخارجية اتسمت بالتردد والتشكيك وتهديد المصالح الأميركية. وفي مطلع عام 2017، أعلن أن عدو واشنطن الوحيد هو «داعش»… وهذا يقتضي التحالف مع روسيا. وبعد فترة قصيرة، تدهورت العلاقات مع موسكو، واضطر الكونغرس بغالبية ساحقة إلى إرغام الرئيس على توقيع مشروع قانون يفرض عقوبات جديدة على روسيا.
والملاحظ أن مرور فترة الاختبار المقدرة بمئة يوم لم تسلم من أخطاء ارتكبها الرئيس، ثم سارع إلى احتوائها بتقديم ضحية، أي بطرد مسؤول كبير من إدارته. كل هذا بهدف الظهور أمام الرأي العام كأنه بريء من الزلات التي يقترفها معاونوه. هكذا، توالت الاستقالات الطوعية والإقالات من دوائر الاتصالات والإعلام والأمن القومي. بحيث أن نجوم التلفزيون الفكاهي أصبحوا يستخدمون هذه الظاهرة غير المسبوقة مادة للسخرية والضحك، خصوصاً بعدما أعلن القس برنارد انسحابه من دائرة المستشارين الدينيين!
في ظل تلك الفوضى العارمة، اضطرت المؤسسة العسكرية لأن تتدخل بعدما ثبت لديها أن سلوك رجل الأعمال ترامب لا يمكن أن يتطور إلى مستوى سلوك الرئيس. وبما أن النظام في الولايات المتحدة يعطي القادة المدنيين حق مراقبة السلطة العسكرية، لذلك كان من الصعب إقناع ترامب بالتنازل عن امتياز يمنحه إياه الدستور.
خلال هذه الفترة الحرجة، لم يُكشف بعد عن السبب الحقيقي الذي أقنع ترامب بالتخلي عن دوره تدريجاً لمصلحة العسكريين، ويقبل بتعيين الجنرال المتقاعد جون كيلي (67 سنة) مراقباً ومسؤولاً عن مكتب الرئاسة. وكل ما رشح عن تلك الأزمة الصامتة هو أن كيلي جمع الموظفين، وتحدث إليهم بعبارة مقتضبة جاء فيها: «هاي… أنا الجنرال المتقاعد من بوسطن. ويسرني أن ألقاكم، وأبلغكم بأنه من اليوم فصاعداً يجب أن تمر طلبات المواعيد مع الرئيس من فوق مكتبي.» وهذا ما حدث بالفعل مع كل الموظفين والزوار، بحيث إن كريمة الرئيس صاحبة الامتيازات الاستثنائية إيفانكا وزوجها جاريد كوشنير خضعا لهذا التدبير الصارم.
والمؤكد أن استغلال موقع الرئاسة لتوظيف أفراد عائلته كان موضع انتقاد من وسائل الإعلام التي رأت أن ترامب يحاول تقليد الرئيس جون كينيدي الذي اختار شقيقه روبرت لشغل وظيفة المدعي العام في إدارته. وهذا أمر غير مألوف لدى الرؤساء السابقين.
هكذا، بدأ العهد الجديد للرئيس دونالد ترامب في البيت الأبيض قبل 31 تموز (يوليو). وفي هذا التاريخ استسلم الرئيس لمشيئة أربعة جنرالات متقاعدين، هم: جون كيلي، ووزير الدفاع جيمس ماتيس، ومستشار الأمن القومي ماكماستر، ورئيس القيادة المشتركة جوزيف دانفورد.
كتبت مجلة «تايم» حينذاك تقول أن تشكيل هذا الفريق العسكري جاء نتيجة السياسة المرتجلة التي أقدم الرئيس عليها تجاه كوريا الشمالية وأفغانستان وإيران والصين. لذلك، رأى الشعب الأميركي في ذلك الفريق صمام أمان داخل إدارة متنافرة الأعضاء ذات مواقف متذبذبة وخطرة.
وفي حديث نشرته صحيفة «دايلي تلغراف» البريطانية، اعترف الجنرال كيلي بأنه ذاق مرارة الحرب، ذلك أن نجله الذي كان يحارب في أفغانستان قتِل بانفجار لغم تحت قدميه عام 2010. وهو أول جنرال يفقد نجله في موقع قال ترامب أنه سيعزز قواته فيه ولن ينسحب منه في الموعد الذي حدده الرئيس السابق باراك أوباما.
بقي أن نذكر في هذا السياق الدور الذي لعبه كبير الاستراتيجيين في البيت الأبيض ستيف بانون. وهو دور بالغ الأهمية سواء أثناء الحملة الانتخابية أو بعد فوز ترامب بالرئاسة. وقد أسبغت الصحافة عليه ألقاباً كثيرة بينها: رئيس الظل… وأمير الظلام… والساحر.
بيد أن تظاهرات «تشارلوتسفيل» وما رافقها من عنف قاده «النازيون الجدد» والمتطرفون البيض الذين أجبروا الدولة على نقل تمثال روبرت لي من وسط المدينة، هذه التظاهرات والاضطرابات منحت العسكريين الفرصة الذهبية لإسقاط «رئيس الظل» الذي كان ديفيد ديوك، المسؤول السابق في منظمة «كو كلاكس كلان»، أول المهنئين والداعمين لتعيينه في البيت الأبيض.
الرئيس ترامب اضطر إلى تقديم ضحية في حجم الأحداث، فإذا به يعلن إقالة ستيف بانون، مع كلمة شكر قال فيها: «أريد أن أشكره على خدماته، وعلى عمله خلال حملتي الانتخابية ضد المخادعة هيلاري كلينتون. لقد كان عمله عظيماً».
وحقيقة الأمر أن بانون ساهم في إبراز أفكار اليمين المتطرف وعنصرية الجنس الأبيض، وكل ما يؤمن به ترامب من دون أن يجرؤ على إظهاره صراحة. وتقول صحيفة «دايلي مايل» البريطانية أن هذه السياسة المحظورة اقتبسها الرئيس عن والده الذي كان عنصراً نشيطاً في منظمة «كو كلاكس كلان» العنصرية.
من هنا، تفسير بعض المحللين على تعليق ترامب المبهم حول الاضطرابات، وتأخره يومين قبل إعلان إدانة ملتبسة تضع الجاني في كفة المجني عليه. ولقد اختصر ظاهرة العنف بأنها تمارَس منذ زمن بعيد.
في الوقت ذاته، نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» نص مسرحية كان يؤديها في «برودواي» مخرج الأفلام الوثائقية مايكل مور، في عمل منفرد. وقد استخدم مور في السيناريو أسلوبه اللاذع للإعراب عن مشاعر السخط والاستياء من رئيس متهور يملك الشيفرة النووية. وفي نهاية المسرحية، يدعو مور البنتاغون إلى حماية الشعب من مغامرات رئيسه.
ولما علم مور أن الرئيس سيمكث في برج ترامب بنيويورك – أي في عمارته – للمرة الأولى منذ توليه السلطة، دعا جمهور المشاهدين إلى الانضمام إليه في تظاهرة احتجاج راح أفرادها ينادون بسقوطه طول الليل.
بقي السؤال المتعلق بهذه الحركة التصحيحية التي قام بها العسكريون، وما إذا كانت عملية تجريد الرئيس من كبار أعضاء حاشيته تمثل آخر حركة تطهير يشهدها البيت الأبيض… أم إنها المدخل لمزيد من التشذيب الإداري.
يراهن البعض على ظهور موجة تطهير ثانية تأخذ في طريقها مندوبة أميركا في مجلس الأمن الدولي نيكي هايلي، وكل مَن يؤيد بناء جدار فاصل مع المكسيك أو استفزاز كوريا الشمالية ودفعها إلى إشهار حرب نووية.
مقابل هذه التوقعات، يرى آخرون أن سياسة أميركا الخارجية ستشهد استقراراً استراتيجياً بفضل استقلالية الوزير العاقل ريكس تيلرسون، الأمر الذي يسمح له بتطبيع العلاقات مع روسيا وتخفيف حدّة التشنج مع الصين. ومثل هذا التحول قد يمهّد الطريق لردم الهوة الفاصلة بين رئيس مدني لا يتردد في انتهاك مهمته من أجل خدمة مصالح أميركا… وقيادة عسكرية تحاذر من تكرار السقوط في فيتنام ثانية!