IMLebanon

شجاعة القرار

يعبّر عنوان المقال عن خلاصة كتاب بن برنانكي حاكم مصرف الاحتياط الفيديرالي ما بين 2006 و2014 لولايتين مدة كل منهما أربع سنوات، والكتاب صدر عام 2015. وقد شهدت ولايته الاولى تفجر الازمة المالية والاقتصادية العالمية التي تستمر نتائجها في التأثير على مجريات الاقتصاد العالمي حتى تاريخه.

كتاب برنانكي يقع في 600 صفحة ولا نريد عرض محتوياته في مقال، بل عرض بعض مبادرات معالجة الازمة المالية العالمية وشبكة التعاون الدولي ونقارن الى حد ما خطوات الاحتياط الفيديرالي ببعض خيارات مصرف لبنان.

يقع مركز مصرف الاحتياط الفيديرالي في واشنطن وهيئة ادارته تتألف من خمسة حكام على الاقل بينهم رئيس و12 رئيسًا لفروع مصرف الاحتياط الفيديرالي في مناطق تغطي كل ارجاء الولايات المتحدة. ويتولى تسمية رئيس المصرف وحكامه رئيس الولايات المتحدة، بينما تختار رؤساء الفروع الهيئات الانتخابية في الولايات التي تقوم فيها هذه الفروع.

وتفيد تشكيلة إدارة مصرف الاحتياط الفيديرالي وفروعه عن هيكلية معقدة، فالتعيينات سياسية في المقام الاول، لكن حرية اتخاذ القرارات النقدية تعلق على تصويت اعضاء هيئة مؤلفة من الحكام، ورئيس فرع نيويورك للمصرف الفيديرالي، لان نيويورك مركز مالي عالمي تنجز فيه غالبية اعمال تبادل الدولار للاستثمارات او التجارة.

تخرج بن برنانكي من جامعةMIT التي اشتهرت كجامعة اختصاصها العلوم الهندسية، ومن ثم توسعت حلقة الاختصاصات الممكن تحصيلها في هذه الجامعة المميزة، فباتت تشمل الاقتصاد وعلوم السياسة الخ.

بن برنانكي ذو أصل أوكراني، ولد في الولايات المتحدة في عائلة يهودية متمسكة بتعاليم الدين، وتخرج من الـMIT بدرجة الدكتوراه وكان موضوع اطروحته أسباب الانهيار الكبير Great Depression الذي شهدته الولايات المتحدة بين 1929 و1934 والذي أدى الى ارتفاع نسبة البطالة الى 25 في المئة (كما هو الوضع اليوم في إسبانيا مثلاً) وزعزعة الثقة بالنظام الاقتصادي الحر، واشرف على اطروحته ستانلي فيشر الذي كان من حكام المصرف الفيديرالي ومن بعد تولى رئاسة المصرف المركزي الاسرائيلي واستقال بعد ولاية قصيرة.

قبل البحث في وسائل معالجة العاصفة المالية التي ضربت الولايات المتحدة والاقتصاد العالمي بدءاً من أيلول 2008، لا بد من القول إن خريجي الـMIT أمثال برنانكي، وبول كروغمان وجوزف ستيغليتز يعتبرون من رسل تفكير الاقتصادي البريطاني الشهير جون ماينارد كينز الذي أوصى لمعالجة ازمة الثلاثينات بإقدام الدولة على تنفيذ مشاريع تجهيزية كبرى لاشغال المواطنين وتحسين التجهيز البنيوي للمستقبل ولو كان ذلك على حساب توسع عجز الموازنة. هذه المدرسة الفكرية لها اتباعها ومن هؤلاء بن برنانكي.

يشير برنانكي الى ان ملامح ازمة عام 2008 وحتى تاريخه برزت مؤشراتها الاولى في انهيار مصرف متخصص بالقروض العقارية في بريطانيا عام 2007، ومن ثم بدأت ملامح الازمة تتعدد وتشتد منذ أوائل صيف 2008 في الولايات المتحدة، وارتفعت المحاذير والمشاكل بشكل مخيف في أيلول 2008 عندما تفجرت ازمة مصرف ليمان براذرز الذي سمحت السلطات بافلاسه لان عناصر ميزانيته التي كانت توازي 640 مليار دولار كانت متشكلة في غالبيتها من قروض ومساهمات عقارية غير موثوق بها. وعقب ذلك ظهرت ازمة AIG أي مجموعة التأمين الاميركية وبادر الاحتياط الفيديرالي الى استعمال كل وسائله لانقاذ هذه المجموعة، بحيث بلغت المساهمات في رأسمالها من القطاع العام والتسهيلات التي وفرت لها 200 مليار دولار، وبرنانكي يفتخر بأن كل هذه الاموال استردت مع تحقيق ربح للحكومة الفيديرالية تجاوز الـ35 مليار دولار.

بدأت مؤسسات مالية ضخمة تشارف الانهيار من أواسط تشرين الاول وقبل نهاية السنة كانت هنالك شركات صناعية تشارف الانهيار منها شركة “جنرال موتورز”، وشركة “جنرال الكتريك”، وشركة “كرايزلر”، ومصرف الاستثمار المعروف “ميريل لينش”، كما برزت مشاكل الاقراض العقاري حتى لدى مؤسسات خاصة انما متمتعة بحماية الدولة مثل “فاني ماي”.

ودون تفصيل يحتاج الى كتاب، يمكن القول إن التسهيلات التي وفرها مصرف الاحتياط الفيديرالي بوسائل مختلفة منها حسم سندات دين المصارف والشركات العقارية والصناعية، والمساهمة المباشرة في شركات تجاوزت الالفي مليار دولار، أي بلغت اكثر من تريليوني دولار، يضاف اليها تريليون دولار من التسهيلات المتبادلة التي اتفق عليها مع المصرف المركزي الاوروبي، البنك المركزي البريطاني والمصرف المركزي السويسري والمصرف المركزي الياباني.

ومعالم الوصول الى مستوى من الراحة حيال المستقبل بدأت تظهر صيف 2009، علماً بان الازمة لم تنته وفي أي حال نسبة البطالة في الولايات المتحدة لم تتجاوز الـ10,5 في المئة في مقابل 25 في المئة خلال ازمة الثلاثينات.

برنانكي بالغ التهذيب، فهو يلمح فقط الى مسؤولية سلفه آلان غرينسبان عن اخطاء مصرف الاحتياط الفيديرالي، علماً أنه يشير الى محادثة جدية اجراها مع غرينسبان للاستنارة برأيه، فكان جواب هذا الرجل الذي كان يشكل اسطورة في عالم المال لان تصريحاته لم تكن مفهومة، وكانت كذلك عند الاجابة عن سؤال برنانكي، اذ اكتفى بنكتة بسيطة. اسطورة غرينسبان حطمها اقتصاديان وضعا كتاباً عن مآسي ونتائج قيادته لمصرف الاحتياط الفيديرالي طوال 18 عاماً. وتحدث برنانكي أيضاً عن محاولات لاري سامرز الحلول محله بعد توليه رئاسة مصرف الاحتياط الفيديرالي أربع سنوات.

الانتقاد الواضح والصريح والمتكرر لبرنانكي كان لمؤسسات التصنيف مثل Standard & Poor’s وMoody’s، فهو يقول بوضوح إن هذه المؤسسات كانت تصنف المصارف والشركات الكبرى على قياس الاتعاب التي تتقاضاها منها، ولذلك صنفت مصرف ليمان براذرز بدرجة ممتازة قبل انهياره بأيام، وكذلك مجموعة التأمين الاميركية. ويعتبر برنانكي مؤسسات التصنيف من الاسباب الرئيسية لتفجر الازمة.

القرارات الرئيسية للتغلب على الازمة المالية اتخذت في الفصل الرابع من 2008 والفصلين الاولين من 2009 واحتاجت الى موافقة رئيسين، هما جورج بوش الابن – على مشارف نهاية ولايته الثانية – وباراك أوباما عند بداية ولايته الاولى. ويبين أوباما دور الكونغرس ولجانه في المناقشات وكذلك مجلس الشيوخ، والهيئة الفيديرالية لضمان الودائع، ومراقب اصدار العملة الاميركية Comptroller of the currency، ووزير المالية وهيئة الاسواق المالية SEC، والمجالس الفدرالية الاقليمية الـ12 وهيئة المحافظة على حقوق المستهلكين الخ، اضافة الى التعاون وتبادل تسهيلات التسليف مع المصرف المركزي الاوروبي والمصرف المركزي السويسري، والمصرف المركزي البريطاني والمصرف المركزي الياباني.

قام مصرف الاحتياط الفيديرالي بخطوات لم يكن في حاجة الى مثلها في لبنان، لان الازمة المالية العالمية وانخفاض معدلات الفائدة على الودائع في الخارج، مع تعاظم التدفقات النقدية من المصارف المركزية سواء في الولايات المتحدة، ودول الاتحاد الاوروبي واليابان وسويسرا الخ خفضت معدلات الفوائد ودفعت اللبنانيين من اصحاب الودائع في الخارج الى تحويل نحو50 مليار دولار من حساباتهم هذه الى لبنان. ولئلا يظهر الرقم مضخمًا، نشير الى ان التحويلات الى لبنان تجاوزت الـ24 مليار دولار عام 2009 ولا تزال هذه تمكننا من مواجهة عجز ميزان المدفوعات.

ومصرف لبنان عالج ازمات طارئة بهدوء وروية ولم يتأخر عن توفير برامج تحفيز للاسكان، والصناعة، والسياحة، ومبادرات الحفاظ على البيئة، واطلاق مشاريع التطوير للبرامج الالكترونية والابداع، وربما بلغ حجم كل هذه المبادرات والبرامج بالنسبة الى الدخل القومي ما يضاهي نصف معدل قيمة التسهيلات والتوظيفات الاميركية، التي وازت 3,5 تريليونات دولار في وقت ما، أي ما كان يساوي 25 في المئة من الدخل القومي، ما يعني على سبيل المقارنة برامج بقيمة 15 مليار دولار على الاقل في لبنان.

وضعنا قد يستوجب مستقبلاً برامج كما شهدت الولايات المتحدة في حال استمرار الوضع الاقتصادي على تقلص، وانحسار الاستثمار في التجهيز البنيوي، وزيادة الانفاق على تمكين قوى الامن الداخلي والجيش من التصدي للتحديات. مشاكلنا ليست لدى مصرف لبنان، ولا هي نقدية حتى تاريخه، بل هي تحديات تشريعية وتنفيذية من الحكم والحكام الذين يمارسون مسؤولياتهم من منطلقات فئوية ومذهبية ضيقة لا التزاماً لمصلحة الوطن والمواطنين.