الإنعكاسات الإيجابية رهن الثقة وأخواتها
تتعرّض كل دول العالم، وتحديداً تلك التي تتبع النظام الليبرالي الحرّ، لدورات إقتصادية طبيعية، تنتقل بها من الإزدهار الى الأزمات كل بضعة أعوام، والعكس صحيح. وتتّفق معظم المدارس الإقتصادية على توزيع “الدورة” على أربع مراحل أساسية وهي الكساد Depression، والإنتعاش Recovery، والرواج Boom، والإنكماش Recession. وتتعرض دول كثيرة لأزمات غير طبيعية، نتيجة إضطرابات مفاجئة أو سياسات هوجاء مخالِفة لمنطق الإقتصاد، وبالتالي يكون الخروج منها أعقد وأكثر كلفة ويتطلّب الكثير من الحكمة. فبأي خانة يوضع لبنان؟ وهل من إيجابيات لأزمته المالية والإقتصادية؟
صحيح أن لبنان يتمتّع بنظام ليبرالي حرّ، إلا أن حجم الدولة المتضخّم، والذي يتمثّل في إنفاق هائل يُقدّر بـ 17.8 مليار دولار، أو ما نسبته 32 في المئة من حجم الناتج المحلّي الاجمالي، في حين لا تتعدّى هذه النسبة 23 في المئة في الولايات المتحدة الاميركية. فقبض الدولة على الكثير من مفاصل البلد الانتاجية كالكهرباء والمياه والمرافئ، وامتصاصها خيرات البلد المالية بسبب عجزها اللامتناهي… عاملان يجعلان من لبنان حالة شاذة، لا تخضع لمنطق الدورات، بقدر ما تتعايش مع الأزمات، وإن اختلفت درجتها أو حدتها.
أسباب الأزمة
اليوم، وصلت الأزمة الإقتصادية المالية والنقدية اللبنانية الى ذروتها. وأسبابها أصبحت معروفة وتتلخّص في:
– عجز الدولة المستمر بسبب الهدر والفساد.
– تحقيق ميزان المدفوعات عجزاً غير مسبوق بقيمة ( 15.5-) مليار دولار منذ العام 2011.
– زيادة الضغط على مصرف لبنان والمصارف التجارية لتمويل عجز الدولة بالعملات الأجنبية والليرة اللبنانية.
– خروج للدولار بنسب أعلى بكثير من دخوله.
– تراجع إحتياطي مصرف لبنان وفقدان قدرته النسبية على التدخل لحماية الليرة اللبنانية.
– شحّ الدولار.
إيجابيات محدودة
المشهد السوداوي تخترقه شذرات بياض، وإن لم تظهر نتائجها على الفور، إلا أنها ستُعيد التوازن الى السوق من خلال مجموعة كبيرة من النتائج:
– إضطرار الدولة تلقائياً الى تصغير حجمها، بعد إحجام المصارف عن تمويل عجزها، إذ من المتوقع أن يضخّ مصرف لبنان في الأيام القليلة المقبلمة مبلغاً يتراوح بين مليارين و4 مليارات دولار لتهدئة السوق بعد فتح المصارف أبوابها. كما أنه سيتكفّل بحدود 2.7 مليار دولار لدفع إستحقاقات سندات اليوروبوندز. وبالتالي فإن قدرته لتمويل الدولة تتناقص.
– الإسراع في تحقيق الإصلاحات المفروضة، والتي يجب ألّا تقتصر على زيادة الإيرادات بل تقليص النفقات العامة.
– إيجاد الحلول لمرة واحدة ونهائية لعشرات المؤسسات والمرافق غير المنتجة، والتي تُراكم الاعباء المادية على الدولة.
– إحجام المصارف التجارية عن تمويل الدولة بفوائد منخفضة، بعدما استهلكت الأزمة جزءاً كبيراً من العملات الاجنبية نتيجة السحب وتراجع عمليات الإيداع.
– تخفيف فاتورة الإستيراد التي بلغت نحو 20 مليار دولار هذا العام بنسب تتراوح بين 20 وحتى 50 في المئة، ما يعني إبقاء ما يعادل 5 الى 10 مليارات دولار في الأسواق اللبنانية.
– تراجع خروج الدولار من لبنان من بوابة العمالة الاجنبية، فصعوبة الحصول على دولار ستدفع الى تراجع الطلب على العمالة الاجنبية من جهة، ومن الجهة الثانية سيلاقي العمال الأجانب صعوبة في تحويل ما يتقاضونه بالليرة اللبنانية الى دولار، لتحويله خارج البلاد.
المدير العام للمجلس الإقتصادي والإجتماعي محمد سيف الدين يرى أن “الإيجابية الأكبر التي ولّدتها الأزمة الإقتصادية هي التأثير الكبير لصرخات المواطنين في الشارع، ودفعهم باتجاه تشكيل حكومة يكون عملها أكثر قرباً من إرادتهم وأكثر إنصياعاً لطلباتهم المحقة”.
وبرأي سيف الدين فإن “التوترات الامنية، وقطع الطرقات خلال الاسابيع الماضية يخففان بشكل ملحوظ الطلب على العمالة الاجنبية وبالتالي تخفيض الانفاق والحد من خروج الاموال موقتاً من لبنان”.
النتائج الإيجابية المحققة على المدى القصير ستتحول الى كارثية في حال لم يتم الاتفاق على حكومة وطنية تلبّي مطالب الإقتصاد والمواطنين، وأي تأخير سيقضي بحسب المسؤولين على أبسط الإيجابيات المحققة. وبحسب سيف الدين فإن “إعادة التوازن الى السوق تتطلّب توفّر عامل الثقة في الدرجة الاولى. فعندما نتكلم عن مال وإقتصاد يتربّع عنصر الثقة على رأس الاولويات. والثقة هنا ليست في الأشخاص فقط، إنما بالحكم وبسمعة البلد وقدرته على الإستمرار في الإيفاء بالتزاماته بشكل صحيح”. ولكن بحسب سيف الدين، “يجب اليوم العمل بشكل سريع، وبكل الطرق على تعزيز عامل الثقة بلبنان وليس تقويضه من خلال الممارسات. فهناك مسؤولية كبيرة ملقاة على عاتق كافة القوى السياسية بتلمس خطورة الوضع، وإجتراح الحلول المنطقية والعملية لإعادة ما فُقد من عوامل الإستقرار، والإبتعاد أيضاً عن إثارة المخاوف من أننا عاجزون عن معالجة الأزمة وغير قادرين على الإلتزام بتعهداتنا أمام الداخل والخارج”.