Site icon IMLebanon

بلد «مديون» يُفرِط في الإنفاق!

 

لم يكن هناك أفضل من مناقشة مشروع قانون موازنة 2017 وإقراره في مجلس النواب لكسرِ رتابة المشهد السياسي وتحريكِ الجمود وإنهاءِ الدوران الحكومي والنيابي في الحلقة المفرغة بفِعل انصراف الجميع إلى التحضير لخوض الانتخابات، ولكنّ هذه المناقشة وما شهدته من مداخلات كشَفت مزيداً من مخالفات السلطة وارتكاباتها التي باتت على كلّ شفةٍ ولسان.

فقدَ لبنان منذ سنوات طويلة ثقافة مناقشة الموازنات العامة بروحية التطلع والسمو بالارقام نحو نموّ حقيقي على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والمعيشي والإنمائي والمالي، إذ بات بلداً يستدين ويمارس الإفراط في الإنفاق.

والمناقشة التي شهدَها مجلس النواب في اليومين الماضيين تناولت موازنةً انتهى مداها العمري والمالي، فيما المناقشة الحقيقية ينبغي ان تكون لموازنة سنة 2018 التي ينبغي ان تكون عملياً ودستوريا وقانونيا أمام المجلس هذه الايام، ولكن لا بأس إنْ أقِرّت قبل نهاية السنة اي ضمن المهلة القانونية المنصوص عنها في الدستور والقوانين المرعيّة الإجراء.

ويقول سياسيون واكبوا مناقشة الموازنة إنّ اللبنانيين افتقدوا طويلاً لأهمية الموازنة العامة للدولة بالنسبة الى الانتظام المالي العام وترشيد الإنفاق، لأنهم لم يشهدوا مناقشة أيّ موازنة سنوية وقطع حسابِها منذ العام 2006، فالموازنة «تُبيّن لنا ما يمكن ان نملكه وما يمكن ان نصرفَه، وتُخلّص البلد من سِلف الخزينة المشبوهة التي تعطى لهذه الوزارة أو الادارة او تلك وغالباً لا ترَدّ جميعها الى الخزينة وتشكّل في هذه الحال باباً من ابواب الهدر والفساد.

وقد توقّف هؤلاء السياسيون عند ما تضمّنته بعض المداخلات النيابية، ولا سيّما منها مداخلة رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي، كون صاحبها جرّبَ المسؤولية على مستوى رئاسة الحكومة، بحيث انّه تحدّث عن ترشيد الإنفاق وضرورة توجيه طريقة صرفِ المال في اتجاه تأمين فرَصِ عمل وتحفيز الاقتصاد، لأنّ الموازنة ليست طرح أرقام وجمعَ أخرى، كما انّها ليست ارقاماً جامدة، وإنّما ينبغي ان تكون فِعلَ تطوير للبلد سياسياً واقتصادياً على كلّ المستويات.

واللافت انّ مناقشة بعض المتمرّسين في العمل النيابي عبّرت عن اسلوب متقدّم يُبنى عليه لمناقشة الموازنات اللاحقة، فيما جاءت مداخلات بعض المتكلمين لتعكسَ كيف انّهم مهجوسون بعرضِ عضلاتهم الخطابية والانتخابية وبموعد الانتخابات التي تطرقُ بوابهم، وكيف انّ عليهم ان يقدّموا انفسَهم تلفزيونياً بطريقة تُمكّنهم من كسبِ ودّ الناخبين الذين ينتابهم اليأس من طبقة سياسية لم تُعبّر عمّا كانوا يطمحون اليه.

وفي رأي هؤلاء السياسيين أنّ البعض قارَبوا الموازنة بجوهرها من خلال قراءة اقتصادية مالية، فيما عكست مداخلات آخرين انّهم من جيل لم يتعوّد بعد مناقشة الموازنة، التي تبدو للبعض أنّها حاصل ارقام اكثر منها موازنة، في حين انّ لها دوراً وظيفياً يقوم على ترشيد الانفاق وتحفيز النمو وخلقِ فرصِ عملٍ وتحريك العجلة الاقتصادية وتشجيع الاستثمارات ومراعاة التوازن بين الواردات والنفقات.

وبدا في جانب من المناقشات انّ هناك نوّاباً يحتاجون الى تمرّس في مناقشة الموازنة لأنّهم لم يمارسوها، ولا سيّما منهم النواب الجدد الذين دخَلوا الى الندوة النيابية للمرة الاولى منذ العام 2009 ولم يحصل ان ناقشَ مجلس النواب ايّ موازنة للدولة طوال هذه السنوات.

على انّ السياسيين المتابعين استشفّوا من مناقشة الموازنة «إفلاساً حكومياً يوازيه افلاسٌ نيابي جعلَ المفلسين من الجانبين يتقاطعون على «جدوى» مناقشة الموازنة وإقرارها لكي يبرّئ كلّ منهما ساحته ويلمّع صورتَه على ابواب الانتخابات، فالنواب الحاليّون مرشّحون.. وكذلك الوزراء النوّاب منهم وغير النواب، ولم يرَ جميع هؤلاء ضيراً من إبراز مواهبهم الخطابية و«عضلاتهم» الانتخابية عبر شاشات التلفزة التي وجدت هي الأخرى ضالتَها لملءِ هوائها السياسي بهذه «المبارزات الخطابية المثيرة» وما يرافقها من «مناقرات» وأحياناً «قفشات» لجذبِ المشاهدين الذين يئسوا من رتابة المشهد السياسي و»الدمى المتحركة» فيه التي يحرّكها البعض بخيوط من الكواليس.

الحكومة مقصّرة في تقديم الخدمات للمواطنين عبر إداراتها المختلفة التي ينخرها الفساد، والنواب، وخلافاً لدورهم الاساسي، اي التشريع، تحوّلَ بعضُهم متلقّيَ طلباتِ توظيف من ناخبيهم، والنتيجة ان لا توظيف ولا من يوظّفون، وهي حقيقة اعترَف بها نواب في مداخلاتهم. فالمؤسسة الوطنية للاستخدام التي أنشِئت منذ سنين طويلة لكي تؤمّن فرَص عمل للبنانيين ومعالجة البطالة، لا تَستَخدِم ولا تُستَخدَم ولا من يستخدمون، بل تسود في موازاتها «مؤسّسات وطنية للإستزلام» لدى هذه الجهة او تلك في ظلّ سياسة المحاصصات وتقاسمِ الوظائف بين هذه الجهات.

وفي ايّ حال، يقول السياسيون المتابعون، إنّ الحكومة قدّمت موازنة لسنة تنصرم ماليّاً وزمنياً، وقد صَرفت كلّ ارقامها تقريباً، فيما المطلوب، حسب القانون والدستور، ان تناقش في مِثل هذه الايام، ايّ في العقد التشريعي الثاني لمجلس النواب الذي يبدأ في اول يوم ثلثاء بعد 15 تشرين الاول، موازنة سنة 2018.

ولكنّ الحسنة الوحيدة التي يُسجّلها البعض للحكومة هي انّها قدّمت موازنة عامة للدولة للمرّة الاولى منذ العام 2009، ولكنّها غير مرفَقة بـ«قطع الحساب» الذي اختلف النواب في ما بينهم ومع الحكومة بين قائل بوجوب مناقشته وإقراره قبل الشروع في مناقشة الموازنة وإقرارها، وآخر يقول انه يجب أن يناقش ويقرّ أصولاً بعد إقرار الموازنة.

ويبدو انّ «قطع الحساب» هذا الذي يخشى البعض ان يكون «القشّة التي يمكن أن تقصم ظهر البعير» تمّ تأجيلُ البحث فيه الى السنة المقبلة، علّه يُعالج تحت جنحِ موازنة 2018 المنتظر ان ترسلَها الحكومة الى المجلس قبل نهاية السنة الجارية.

بعض السياسيين يقولون إنّ سبب «الهروب» من إعداد الموازنات وإقرارها منذ العام 2006 هو «هروبٌ» من «قطع الحساب» الذي يتوقّف على إجرائه «قطعُ الشكّ باليقين» في مصير مبلغِ الـ11 مليار دولار الذي يقول المهتمّون عنه أنّه لم يُعرَف بعد أين صُرِف وكيف ولمن، ويتمّ تأجيل البحث فيه كلّما طُرح، فيما بات يشكّل، في نظر هؤلاء السياسيين، رأسَ جبلِ الجليد لمكافحة الفساد.